فصل: ذكر زيادات أخر في ترجمة إمام الحرمين جمعناها من متفرقات الكتب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: طبقات الشافعية الكبرى **


472 عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد بن علي بن محمد القطان المعروف بأبي معشر الطبري

الإمام في القراءات مصنف التلخيص وسوق العروس في القراءات المشهورة والغريبة وكتاب الدرر في التفسير وعيون المسائل وطبقات القراء وغير ذلك

وكان مقرىء أهل مكة في عصره وقد روى تفسير الثعلبي عن المصنف ومسند الإمام أحمد وتفسير النقاش عن شيخه الزيدي

وروى عن أبي عبد الله بن نظيف والقاضي أبي الطيب الطبري وغيرهما

وحدث عنه أبو بكر محمد بن عبد الباقي وغيره

وكان من فضلا الشافعية

توفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بمكة

473 عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد النيسابوري الأستاذ أبو القاسم القشيري النيسابوري الملقب زين الإسلام

الإمام مطلقا وصاحب الرسالة التي سارت مغربا ومشرقا والبسالة التي أصبح بها نجم سعادته مشرقا والأصالة التي تجاوز بها فوق الفرقد ورقى

أحد أئمة المسلمين علما وعملا وأركان الملة فعلا ومقولا

إمام الأئمة ومجلي ظلمات الضلال المدلهمة

أحد من يقتدى به في السنة ويتوضح بكلامه طرق النار وطرق الجنة

شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة ومقدم الطائفة الجامع بين أشتات العلوم

ولد في ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلاثمائة

وسمع الحديث من أبي الحسين الخفاف وأبي نعيم الإسفرايني وأبي بكر بن عبدوس المزكي وأبي نعيم أحمد بن محمج المهرجاني وعلي بن أحمد الأهوازي وأبي عبد الرحمن السلمي وابن باكوية الشيرازي والحاكم وابن فورك وأبي الحسين بن بشران وغيرهم

روى عنه ابنه عبد المنعم وابن ابنه أبو الأسعد هبة الرحمن وأبو عبد الله الفراوي وزاهر الشحامي وعبد الوهاب بن شاه الشاذياخي ووجيه الشحامي وعبد الجبار الخواري وخلق

وروى عنه من القدماء أبو بكر الخطيب وغيره

ووقع لنا الكثير من حديثه

وأخذ الفقه عن أبي بكر محمد بن بكر الطوسي وعلم الكلام عن الأستاذ أبي بكر بن فورك

واختلف أيضا يسيرا إلى الأستاذ أبي إسحاق

وأخذ التصوف عن أستاذه أبي علي الدقاق

وكان فقيها بارعا أصوليا محققا متكلما سنيا محدثا حافظا مفسرا متفننا نحويا لغويا أديبا كاتبا شاعرا مليح الخط جدا شجاعا بطلا له في الفروسية واستعمال السلاح الآثار الجميلة

أجمع أهل عصره على أنه سيد زمانه وقدوة وقته وبركة المسلمين في ذلك العصر

قال الخطيب حدث ببغداد وكتبنا عنه وكان ثقة وكان يعظ وكان حسن المواعظ مليح الإشارة وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري والفروع على مذهب الشافعي

وقال عبد الغافر بن إسماعيل فيه الإمام مطلقا الفقيه المتكلم الأصولي المفسر الأديب النحوي الكاتب الشاعر لسان عصره وسيد وقته وسر الله بين خلقه شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة ومقدم الطائفة ومقصود سالكي الطريقة وبندار الحقيقة وعين السعادة وحقيقة الملاحة لم ير مثل نفسه ولا رأى الراءون مثله في كماله وبراعته جمع بين علم الشريعة والحقيقة وشرح أحسن الشرح أصول الطريقة

أصله من ناحية أستوا من العرب الذين وردوا خراسان وسكنوا النواحي فهو قشيري الأب سلمي الأم وخاله أبو عقيل السلمي من وجوه دهاقين ناحية أستوا

توفي أبوه وهو طفل فوقع إلى أبي القاسم الأليماني فقرأ الأدب والعربية عليه بسبب اتصاله بهم وقرأ على غيره وحضر البلد واتفق حضوره مجلس الأستاذ الشهيد أبي علي الحسن بن علي الدقاق وكان لسان وقته فاستحسن كلامه وسلك طريق الإرادة فقبله الأستاذ وأشار عليه بتعلم العلم فخرج إلى درس الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن بكر الطوسي وشرع في الفقه حتى فرغ من التعليق ثم اختلف بإشارته إلى الأستاذ الإمام أبي بكر بن فورك وكان المقدم في الأصول حتى حصلها وبرع فيها وصار من أوجه تلامذته وأشدهم تحقيقا وضبطا وقرأ عليه أصول الفقه وفرغ منه ثم بعد وفاة الأستاذ أبي بكر اختلف إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وقعد يسمع جميع دروسه وأتى عليه أيام فقال له الأستاذ هذا العلم لا يحصل بالسماع

وما توهم فيه ضبط ما يسمع فأعاد عنده ما سمعه منه وقرره أحسن تقرير ن غير إخلال بشيء فتعجب منه وعرف محله فأكرمه وقال ما كنت أدري أنك بلغت هذا المحل فلست تحتاج إلى درسي يكفيك أن تطالع مصنفاتي وتنظر في طريقي وإن أشكل عليك شيء طالعتني به ففعل ذلك وجميع بين طريقته وطريقة ابن فورك

ثم نظر بعد ذلك في كتب القاضي أبي بكر ابن الطيب وهو مع ذلك يحضر مجلس الأستاذ أبي علي إلى أن اختاره لكريمته فزوجها منه

وبعد وفاة الأستاذ عاشر أبا عبد الرحمن السلمي إلى أن صار أستاذ خراسان وأخذ في التصنيف فصنف التفسير الكبير قبل العشر وأربعمائة ورتب المجالس وخرج إلى الحج في رفقة فيها أبو محمد الجويني والشيخ أحمد البيهقي وجماعة من المشاهير فسمع معهم الحديث ببغداد والحجاز من مشايخ عصره

وكان في علم الفروسية واستعمال السلاح وما يتعلق به من أفراد العصر وله في ذلك الفن دقائق وعلوم انفرد بها

وأما المجالس في التذكير والقعود فيما بين المريدين وأسئلتهم عن الوقائع وخوضه في الأجوبة وجريان الأحوال العجيبة فكلها منه وإليه

أجمع أهل العصر على أنه عديم النظير فيها غير مشارك في أساليب الكلام على المسائل وتطييب القلوب والإشارات اللطيفة المستنبطة من الآيات والأخبار من كلام المشايخ والرموز الدقيقة وتصانيفه فيها المشهورة إلى غير ذلك من نظم الأشعار اللطيفة على لسان الطريقة

ولقد عقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وكان يملي إلى سنة خمس وستين يذنب أماليه بأبياته وربما كان يتكلم على الحديث بإشاراته ولطائفه

وله في الكتابة طريقة أنيقة رشيقة تبري على النظم

ولقد قرأت فصلا ذكره علي بن الحسن في دمية القصر وهو أن قال الإمام زين الإسلام أبو القاسم جامع لأنواع المحاسن تنقاد له صعابها ذلل المراسن فلو قرع الصخر بسوط تحذيره لذاب ولو ربط إبليس في مجلس تذكيره لتاب وله فصل الخطاب في فضل النطق المستطاب ماهر في التكلم على مذهب الأشعري خارج في إحاطته بالعلوم على الحد البشري كلماته للمستفيدين فوائد وفرائد وعتبات منبره للعارفين وسائد وله شعر يتوج به رؤوس معاليه إذا ختمت به أذناب أماليه

قال عبد الغافر وقد أخذ طريق التصوف من الأستاذ أبي علي الدقاق وأخذها أبو علي عن أبي القاسم النصراباذي والنصراباذي عن الشبلي والشبلي عن الجنيد والجنيد عن السري السقطي والسري عن معروف الكرخي ومعروف عن داود الطائي وداود لقي التابعين

هكذا كان يذكر إسناد طريقته

ومن جملة أحواله ما خص به من المحنة في الدين والاعتقاد وظهور التعصب بين الفريقين في عشر سنة أربعين إلى خمس وخمسين وأربعمائة وميل بعض الولاة إلى الأهواء وسعى بعض الرؤساء والقضاة إليه بالتخليط حتى أدى ذلك إلى رفع المجالس وتفرق شمل الأصحاب وكان هو المقصود من بينهم حسدا حتى اضطرته الحال إلى مفارقة الأوطان وامتد في أثناء ذلك إلى بغداد وورد على أمير المؤمنين القائم بأمر الله ولقى فيها قبولا وعقد له المجلس في منازله المختصة به وكان ذلك بمحضر ومرأى منه ووقع كلامه في مجلسه الموقع وخرج الأمر بإعزازه وإكرامه وعاد إلى نيسابور وكان يختلف منها إلى طوس بأهله وبعض أولاده حتى طلع صبح النوبة المباركة دولة السلطان ألب أرسلان في سنة خمس وخمسين وأربعمائة فبقي عشر سنين في آخر عمره مرفها محترما مطاعا معظما وأكثر صفوه في آخر أيامه التي شاهدناه فيها أخيرا إلى أن تقرأ عليه كتبه وتصانيفه والأحاديث المسموعة له وما يؤول إلى نصرة المذهب

بلغ المنتمون إليه لافا فأملوا بذكره وتصانيفه أطرافا

انتهى كلام عبد الغافر

قال ابن السمعاني سمعت أبا بشر مصعب بن عبد الرزاق بن مصعب المصعبي بمرو يقول حضر الأستاذ أبو القاسم مجلس بعض الأئمة الكبار وكان قاضيا بمرو وأظنه قال القاضي علي الدهقان وقت قدومه علينا فلما دخل الأستاذ قام القاضي على رأس السرير وأخذ مخدة كان يستند عليها على السرير وقال لبعض من كان قاعدا على درجة المنبر احملها إلى الأستاذ الإمام ليقعد عليها

ثم قال أيها الناس حججت سنة من السنين وكان قد اتفق أن حج تلك السنة هذا الإمام الكبير وأشار إلى الأستاذ وكان يقال لتلك السنة سنة القضاة وكان حج تلك السنة أربعمائة نفس من قضاة المسلمين وأئمتهم من أقطار البلدان وأقاصي الأرض وأرادوا أن يتكلم واحد منهم في حرم الله سبحانه وتعالى فاتفق الكل على الأستاذ أبي القاسم فتكلم هو باتفاق منهم

قلت من سمع هذه الحكاية لم يستنكر ما ذكره الغزالي في باب الولاء في مسألة أربعمائة قاض

وبلغنا أنه مرض للأستاذ أبي القاسم ولد مرضا شديدا بحيث أيس منه فشق ذلك على الأستاذ فرأى الحق سبحانه وتعالى في المنام فشكى إليه فقال له الحق سبحانه وتعالى اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه واكتبها في إناء واجعل فيه مشروبا واسقه إياه ففعل ذلك فعوفي الولد

وآيات الشفاء في القرآن ست ‏{‏وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏{‏شِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏{‏فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ‏}‏ ‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء‏}‏ ورأيت كثيرا من المشايخ يكتبون هذه الآيات للمريض ويسقاها في الإناء طلبا للعافية

ومن تصانيف الأستاذ التفسير الكبير وهو من أجود التفاسير وأوضحها والرسالة المشهورة المباركة التي قيل ما تكون في بيت وينكب والتحبير في التذكير وآداب الصوفية ولطائف الإشارات وكتاب الجواهر وعيون الأجوبة في فنون الأسئلة وكتاب المناجاة وكتاب نكت أولي النهى وكتاب نحو القلوب الكبير وكتاب نحو القلوب الصغير وكتاب أحكام السماع وكتاب الأربعين في الحديث وقع لنا بالسماع المتصل وغير ذلك

وخلف من البنين ستة ذكرناهم في هذه الطبقات عبادلة كلهم من السيدة الجليلة فاطمة بنت الأستاذ أبي علي الدقاق

قال النقلة ولما مرض لم تفته ولا ركعة قائما بل كان يصلي قائما إلى أن توفي رحمه الله في صبيحة يوم الأحد السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة ودفن في المدرسة إلى جانب أستاذه أبي علي الدقاق

قال أبو تراب المراغي رأيته في النوم فقال أنا في أطيب عيش وأكمل راحة

وقال غيره كانت للأستاذ فرس يركبها فلما مات امتنعت عن العلف ولم تطعم شيئا ولم تمكن راكبا من ركوبها ومكثت أياما قلائل على هذا بعده إلى أن ماتت

ومن رشيق كلامه ومليح شعره وجليل الفوائد عنه

قال عبد المنعم بن الأستاذ أبي القاسم سمعت والدي يقول المريد لا يفتر آناء الليل وأطراف النهار فهو في الظاهر بنعت المجاهدات وفي الباطن بوصف المكابدات فارق الفراش ولازم الانكماش وتحمل المصاعب وركب المتاعب وعالج الأخلاق ومارس المشاق وعانق الأهوال وفارق الأشكال كما قيل

ثم قطعت الليل في مهمة ** لا أسدا أخشى ولا ذيبا

يغلبني شوقي فأطوي السرى ** ولم يزل ذو الشوق مغلوبا

ومن شعر الأستاذ

يا من تقاصر شكري عن أياديه ** وكل كل لسان عن معاليه

وجوده لم يزل فردا بلا شبه ** علا عن الوقت ماضيه وآتيه

لا دهر يخلقه لا قهر يلحقه ** لا كشف يظهره لا ستر يخفيه

لا عد يجمعه لا ضد يمنعه ** لا حد يقطعه لا قطر يحويه

لا كون يحصره لا عون ينصره ** وليس في الوهم معلوم يضاهيه

جلاله أزلي لا زوال له ** وملكه دائم لا شيء يفنيه

وقال أيضا

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ** وشهدت حين نكرر التوديعا

أيقنت أن من الدموع محدثا ** وعلمت أن من الحديث دموعا

وقال أيضا

وإذا سقيت من المحبة مصة ** ألقيت من فرط الخمار خماري

كم تبت قصدا ثم لاح عذاره ** فخلعت من ذاك العذار عذاري

وقال أيضا

أيها الباحث عن دين الهدى ** طالبا حجة ما يعتقده

إن ما تطلبه مجتهدا ** غير دين الشافعي لا تجده

وقال أيضا

لا تدع خدمة الأكابر واعلم ** أن في عشرة الصغار صغارا

وابغ من في يمينه لك يمن ** وترى في اليسار منه اليسارا

قلت ذكرت هنا قولي قديما

قبيح بي ورب العرش ربي ** أخاف الضر أو أخشى افتقارا

وكيف وإن أمد له يمينا ** لتدعو ظل يمنحها اليسارا

وقال أيضا

جنباني المجون يا صاحبيا ** واتلوا سورة الصلاة عليا

قد أجبنا لزاجر العقل طوعا ** وتركنا حديث سلمى وميا

ومنحنا لموجب الشرع نشرا ** وشرعنا لموجب اللهو طيا

ووجدنا إلى ا لقناعة بابا ** فوضعنا على المطامع كيا

كنت في حر وحشتي لاختياري ** فتعوضت بالرضى منه فيا

إن من يهتدي لقطع هواه ** فهو في العز حاز أوج الثريا

والذين ارتووا بكأس مناهم ** فعلى الصيد سوف يلقون غيا

474 عبد الكريم بن يونس بن محمد بن منصور

أبو الفضل الأزجاهي

نسبه إلى أزجاه بفتح الألف وسكون الزاي وفتح الجيم وفي آخرها الهاء وهي إحدى قرى خابران من خراسان

قال ابن السمعاني إمام فاضل ورع متقن حافظ لمذهب الشافعي متصرف فيه

تفقه بنيسابور على الشيخ أبي محمد ثم بمرو على أبي طاهر السنجي وبمرو الروذ على القاضي الحسين وسمع الحديث وأملى

قال وتوفي سنة ست وثمانين وأربعمائة

475 عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد أبو الفضل الهمذاني الفرضي المعروف بالمقدسي

من أهل همذان

سكن بغداد إلى حين وفاته

سمع أبا نصر بن هبيرة وأبا الفضل بن عبدان الفقيه وأبا محمد عبد الله بن جعفر الجناري وغيرهم

وحدث باليسير

وكان من أئمة الدين وأوعية العلم

وقيل إنه كان يحفظ مجمل اللغة لابن فارس وغريب الحديث لأبي عبيد

وكان زاهدا ناسكا عابدا ورعا

وأما الفرائض والحساب وقسمة التركات فكان قيم عصره بها

وأريد على أن يلي قضاء القضاة فامتنع ولم يعرف أنه اغتاب أحدا قط ولا ذكره بما يستحيى منه

وقيل إنه كان على مذهب المعتزلة وقد قال أبو الوفاء بن عقيل إنه قال لم أر فيمن رأيت استجمع شرائط الاجتهاد إلا أبا يعلى وابن الصباغ وعبد الملك بن إبراهيم

وكان ظريفا لطيفا مع الورع ومحاسبة النفس والتدقيق في العمل

ذكره ولده محمد بن عبد الملك في تاريخه وقال كان أبي إذا أراد يؤدبني يأخذ العصا بيده ويقول نويت أن أضرب والدي تأديبا كما أمر الله ثم يضربني

قال وربما هربت قبل أن يتم النية

وكان عبد الملك بن إبراهيم قد تفقه على القاضي الماوردي

توفي في شهر رمضان سنة تسع وثمانين وأربعمائة وقد قارب الثمانين ولم يكن يخبر بمولده على ما ذكره ولده أبو الحسن محمد بن عبد الملك

وله فتيا وقفت عليها وفيها أنه لا حضانة للعمياء وقد ذكرنا المسألة في ترجمة ابن الصباغ

وفيها أن الفطر في رمضان لأجل إنقاذ الغريق إنما يجب على من تعين عليه إنقاذه والأصحاب أطلقوا الوجوب

قال الشيخ الإمام في شرح المنهاج وفي هذا التقييد نظر لأنه يؤدي إلى التواكل

476 عبد الملك بن عبد الله بن محمود بن صهيب بن مسكين أبو الحسن المصري الفقيه

روى عن أبيض بن محمد الفهري صاحب النسائي وعبيد الله بن محمد بن أبي غالب البزار وأبي بكر بن المهندس وأبي بكر محمد بن القاسم بن أبي هريرة وعلي بن الحسن الأنطاكي قاضي أذنة وغيرهم

روى عنه الرازي في مشيخته وذكر شيخنا الذهبي أنه كان يعرف أيضا بالزجاج

مات سنة سبع وأربعين وأربعمائة

477 عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن عبد الله بن حيوية الجويني

النيسابوري إمام الحرمين أبو المعالي ولد الشيخ أبي محمد

هو الإمام شيخ الإسلام البحر الحبر المدقق المحقق النظار الأصولي المتكلم البليغ الفصيح الأديب العلم الفرد زينة المحققين إمام الأئمة على الإطلاق عجما وعربا وصاحب الشهرة التي سارت السراة والحداة بها شرقا وغربا

هو البحر وعلومه درره الفاخرة والسماء وفوائده التي أنارت الوجود نجومها الزاهرة يمل الحديد من الحديد وذهنه لا يمل من نصرة الدين فولاذه وتكل الأنفس وقلمه يسح وابل دمعه ورذاذه ويدجو الليل البهيم ولا ترى بدرا إلا وجهه في محرابه ولا ناظرا طرفه ناظرا في كتابه

بطل علم إذا رآه النظار أفحموا وقالوا ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ وفارس بحث يضيق على خصمائه الفضاء الواسع حتى لا يفوته الهارب منهم في الأرض يحور ولو أنه الطائر في السماء يحوم

تفد المشكلات إليه فيصدها وترد السؤالات عليه فلا يردها

أبدا على طرف اللسان جوابه ** فكأنما هي دفعة من صيب

يغدو مساجله بغزة صافح ** ويروح معترفا بذلة مذنب

وما برح يدأب لا يترك سامية إلا علاها ولا غاية إلا قطع دونها أنفاس المجاز وقطع منتهاها بذهن صح على نقد الفكر إبريزه ووضح في ميدان الجدال تبريزه حتى قال له الدهر لقد اشتبه يومك بأمسك وقالت العلياء هذا حدي قف عنده على رسلك ارفق بنفسك وأمسك

هذا إلى لفظ غرة سحر إلا أنه حل وبل ودره يتيم إلا أنه لا يذل بفصيح كلم قالت النحاة هذا ما عجز عنه زيد وعمرو وخالد وبليغ قول قالت البلغاء قصر عن مداه طريف الفصاحة والتالد

وما أرى أحدا في الناس يشبهه ** وما أحاشي من الأقوام من أحد

أجل والله إنه لذو حظ عظيم وقدر إذا أنصفت العداة أصبح وإذا الذي بينه وبينه عداوة كأنه ولي حميم

وعظمة أمست ديار الأعداء بها وهي محلات مآثم وجلالة قال القاضي لا يكتمها الشاهد المعدل عندي ومن يكتمها فإنه آثم

ومهابة يتضاءل النجم دونها وتود الأسود أن تكونها ولا تكون إلا دونها

وفخار لو رأته الأم لقالت قري عينا أيتها النفس بهذا الولد أو المزني لعلم أن بنات قرائحه انتهت إليه أبكارا واتخذ منها ما عز كل واحد

وأبحاث لو عارضها القفال شيخ الخراسانيين لقيل هذا يضرب في حديد بارد ولو عرضت على شيخ العراقيين لقال ابن أبي طاهر أنا شيخ الطائفة وأنا حامد وأبو حامد

وشعار أوى الأشعري منه إلى ركن شديد واعتزل المعتزلي المناظرة علما أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد

إذا صعد المنبر مد يده إلى الفراقد وأنشده الفضل

ولما رأيت الناس دون محله ** تيقنت أن الدهر للناس ناقد

وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوبا جديدا ونادته القلوب إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وإذا ناظر قعد الأسد فلا يستطيع أن يقوم وقام الحق بحيث يحضر أندية الدين وسهيل قد نبذ بالعراء كأنه مذموم وإذا قصد المبتدعة هد شبهها ببراهين قائمة على عمد وأنشد من رآها

أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ** أخنى عليها الذي أخنى على لبد

ربي في حجر العلم رشيدا حتى ربا وارتضع ثدي الفضل فكان فطامه هذا النبا وأحكم العربية وما يتعلق بها من علوم الأدب وأوتي من الفصاحة والبلاغة ما عجز الفصحاء وحير البلغاء وسكت من نطق ودأب

وكان يذكر دروسا كل درس منها تضييق الأوراق العديدة عن استيعابه ويقصر مد البحر عن مدى عبابه غير متلعثم في الكلام ولا محتاج إلى استدراك عثرة في لفظة جرت على غير النظام بل جار كالسيل منحدرا والبرق إذا سرى

يعلم المتعمقون أنه لا يدرك له حد ويعترف المبرزون بأنه عمل صالحا وأحسن في السرد

قال الثقات إن ما يوجد في مصنفاته من العبارات قطرة من سيل كان يجريه لسانه على شفتيه عنه المذاكرة وغرفة من بحر كان يفيض من فمه في مجالس المناظرة

وأقول من ظن أن في المذاهب الأربعة من يداني فصاحته فليس على بصيرة من أمره ومن حسب أن في المصنفين من يحاكي بلاغته فليس يدري ما يقول

شرح حال ابتداء الإمام

ولد في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة واعتنى به والده من صغره لا بل من قبل مولده

وذلك أن أباه اكتسب من عمل يده مالا خالصا من الشبهة اتصل به إلى والدته فلما ولدته له حرص على أن لا يطعمه ما فيه شبهة فلم يمازح باطنه إلا الحلال الخالص حتى يحكى أنه تلجلج مرة في مجلس مناظرة فقيل له يا إمام ما هذا الذي لم يعهد منك فقال ما أراها إلا آثار بقايا المصة

قيل وما نبأ هذه المصة قال إن أمي اشتغلت في طعام تطبخه لأبي وأنا رضيع فبكيت وكانت عندنا جارية مرضعة لجيراننا فأرضعتني مصة أو مصتين ودخل والدي فأنكر ذلك وقال هذه الجارية ليست ملكا لنا وليس لها أن تتصرف في لبنها وأصحابها لم يأذنوا في ذلك وقلبني وفوعني حتى لم يدع في باطني شيئا إلا أخرجه وهذه اللجلجة من بقايا تلك الآثار

فانظر إلى هذا الأمر العجيب وإلى هذا الرجل الغريب الذي يحاسب نفسه على يسير جرى في زمن الصبا الذي لا تكليف فيه وهذا يدنو مما حكي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه

ثم أخذ الإمام في الفقه على والده وكان والده يعجب به ويسر لما يرى فيه من مخايل النجابة وأمارات الفلاح

وجد واجتهد في المذهب والخلاف والأصولين وغيرها وشاع اسمه واشتهر في صباه وضربت باسمه الأمثال حتى صار إلى ما صار إليه وأوقف علماء المشرق والمغرب معترفين بالعجز بين يديه وسلك طريق البحث والنظر والتحقيق بحيث أربى على كثير من المتقدمين وأنسى تصرفات الأولين وسعى في دين الله سعيا يبقى أثره إلى يوم الدين

ولا يشك ذو خبرة أنه كان أعلم أهل الأرض بالكلام والأصول والفقه وأكثرهم تحقيقا بل الكل من بحره يغترفون وأن الوجود ما أخرج بعده له نظيرا

وأما التفضيل الذي كان بينه وبين من تقدمه فقد طال الشرح فيه في عصره ولا نرى للبحث عن ذلك معنى

ثم توفي والده وسنه نحو العشرين وهو مع ذلك من الأئمة المحققين فأقعد مكانه في التدريس فكان يدرس ثم يذهب بعد ذلك إلى مدرسة البيهقي حتى حصل الأصول عند أستاذه أبي القاسم الإسكاف الإسفرايني وكان يواظب على مجلسه

قال عبد الغافر الفارسي وقد سمعته يقول في أثناء كلامه كنت علقت عليه في الأصول أجزاء معدودة وطالعت في نفسي مائة مجلدة

وكان يصل الليل بالنهار في التحصيل ويبكر كل يوم قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مسجد أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القرآن ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكنه مع مواظبته على التدريس وينفق ما ورثه وما كان يدخل له على المتفقهة ويجتهد في المناظرة ويواظب عليها إلى أن ظهر التعصب بين الفريقين واضطربت الأحوال والأمور

قال عبد الغافر فاضطر إلى السفر والخروج عن البلد فخرج مع المشايخ إلى المعسكر وخرج إلى بغداد يطوف مع المعسكر ويلتقي بالأكابر من العلماء ويدارسهم ويناظرهم حتى طار ذكره في الأقطار وشاع ذكره واسمه فملأ الديار ثم زمزم له الحادي بذكر زمزم وناداه على بعد الديار البيت الحرام فلبى وأحرم وتوجه حاجا وجاور بمكة أربع سنين يدرس ويفتي ويجتهد في العبادة ونشر العلم حتى شرف به ذلك النادي وأشرقت تلاع ذلك الوادي وأسبلت عليه الكعبة ستورها وأقبلت عليه وهو يطوف بها كلما اسود جنح الليالي بيض بأعماله الصالحة ديجورها وصفت نيته مع الله فلو كانت الصفا ذات لسان لشافهته جهارا وشكر له المسعى بين الصفا والمروة إقبالا وإدبارا

ثم عاد إلى نيسابور بعد ولاية السلطان ألب أرسلان وتزين وجه الملك بإشارة نظام الملك واستقرت أمور الفريقين وانقطع التعصب

وقد قدمنا حكاية الفتنة في ترجمة أبي سهل بن الموفق

فبنيت له المدرسة النظامية بنيسابور وأقعد للتدريس فيها واستقامت أمور الطلبة وبقي على ذلك قريبا من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع مسلما له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة والمناظرة وهجرت المجالس من أجله وانغمر غيره من الفقهاء بعلمه وكسدت الأسواق في جنبه ونفق سوق المحققين من خواصه وتلامذته فظهرت تصانيفه وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة واتفق له من المواظبة على التدريس والمناظرة ما لم يعهد لغيره مع الوجاهة الزائدة في الدنيا

وسمع الحديث في صباه من والده ومن أبي حسان محمد بن أحمد المزكي وأبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النصروي وأبي عبدا لله محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي وأبي سعد عبد الرحمن بن الحسن بن عليك وأبي عبد الرحمن محمد ابن عبد العزيز النيلي وغيرهم

وأجاز له أبو نعيم الحافظ وحدث

وروى عنه زاهر الشحامي وأبو عبد الله الفراوي وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن وغيرهم

ومن تصانيفه النهاية في الفقه لم يصنف في المذهب مثلها فيما أجزم به

والشامل في أصول الدين

والبرهان في أصول الفقه

والإرشاد في أصول الدين

والتلخيص مختصر التقريب والإرشاد أصول فقه أيضا

والورقات فيه أيضا

وغياث الأمم

ومغيث الخلق في ترجيح مذهب الشافعي

والرسالة النظامية

ومدارك العقول

وله ديوان خطب مشهور

وله مختصر النهاية اختصرها بنفسه وهو عزيز الوقوع من محاسن كتبه قال هو نفسه فيه إنه يقع في الحجم من النهاية أقل من النصف وفي المعنى أكثر من الضعف

ذكر شيء من ثناء أهل عصره عليه

قال الشيخ أبو أسحاق الشيرازي تمتعوا بهذا الإمام فإنه نزهة هذا الزمان يعني إمام الحرمين

وقال له مرة يا مفيد أهل المشرق والمغرب لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون

وقال له مرة أخرى أنت اليوم إمام الأئمة

وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني وقد سمع كلام إمام الحرمين في بعض المحافل صرف الله المكاره عن هذا الإمام فهو اليوم قرة عين الإسلام والذاب عنه بحسن الكلام

ولعلي بن الحسن الباخرزي فيه وهو شاب كلام سيمر بك في أثناء كلام عبد الغافر الفارسي

ونقلت من خط ابن الصلاح أنشد بعض من رأى إمام الحرمين

لم تر عيني أحدا ** تحت أديم الفلك

مثل إمام الحرمين ** الندب عبد الملك

وقال الحافظ أبو محمد الجرجاني هو إمام عصره ونسيج وحده ونادرة دهره عديم المثل في حفظه وبيانه ولسانه

قال وإليه الرحلة من خراسان والعراق والحجاز

وقال قاضي القضاة أبو سعيد الطبري وقد قيل له إنه لقب إمام الحرمين بل هو إمام خراسان والعراق لفضله وتقدمه في أنواع العلوم

وكان الفقيه الإمام غانم الموشيلي ينشد لغيره في إمام الحرمين

دعوا لبس المعالي فهو ثوب ** على مقدار قد أبى المعالي

وروى ابن السمعاني أن إمام الحرمين ناظر فيلسوفا في مسألة خلق القرآن فقذف بالحق على باطله ودمغه دمغا ودحض شبهه دحضا ووضح كلامه في المسألة حتى اعترف الموافق والمخالف له بالغلبة

وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري لو ادعى إمام الحرمين اليوم النبوة لاستغنى بكلامه هذا عن إظهاره المعجزة

ذكر كلام عبد الغافر الفارسي فيه وهو آت بغالب الترجمة

ولا علينا إذا تكرر بعض ما مضى ذكره

قال عبد الغافر الفارسي الحافظ في سياق نيسابور إمام الحرمين فخر الإسلام إمام الأئمة على الإطلاق حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقا وغربا المقر بفضله السراة والحداة عجما وعربا من لم تر العيون مثله قبله ولا ترى بعده

رباه حجر الإمامة وحرك ساعد السعادة مهده وأرضعه ثدي العلم والورع إلى أن ترعرع فيه ويفع

أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب فزاد فيها على كل أديب ورزق من التوسع في العبارة وعلوها ما لم يعهد من غيره حتى أنسى ذكر سحبان وفاق فيها الأقران وحمل القرآن فأجز الفصحاء اللد وجاوز الوصف والحد وكل من سمع خبره ورأى أثره فإذا شاهده أقر بأن خبره يزيد كثيرا على الخبر ويبر على ما عهد من الأثر

وكان يذكر دروسا يقع كل واحد منها في أطباق وأوراق لا يتلعثم في كلمة ولا يحتاج إلى استدراك عثرة مرا فيها كالبرق الخاطف بصوت مطابق كالرعد القاصف ينزف فيه له المبرزون ولا يدرك شأوه المتشدقون المتعمقون وما يوجد منه في كتبه من العبارات البالغة كنه الفصاحة غيض من فيض ما كان على لسانه وغرفة من أمواج ما كان يعهد من بيانه

تفقه في صباه على والده ركن الإسلام فكان يزهى بطبعه وتحصيله وجودة قريحته وكياسة غريزته لما يرى فيه من المخايل فخلفه فيه من بعد وفاته وأتى على جميع مصنفاته فقلبها ظهرا لبطن وتصرف فيها وخرج المسائل بعضها على بعض ودرس سنين ولم يرض في شبابه بتقليد والده وأصحابه حتى أخذ في التحقيق وجد واجتهد في المذهب والخلاف ومجلس النظر حتى ظهرت نجابته ولاح على أيامه همة أبيه وفراسته وسلك طريق المباحثة وجمع الطرق بالمطالعة والمناظرة والمناقشة حتى أربى على المتقدمين وأنسى تصرفات الأولين وسعى في دين الله سعيا يبقى أثره إلى يوم الدين

ومن ابتداء أمره أنه لما توفي أبوه كان سنه دون العشرين أو قريبا منه فأقعد مكانه للتدريس فكان يقيم الرسم في درسه ويقوم منه ويخرج إلى مدرسة البيهقي حتى حصل الأصول وأصول الفقه على الأستاذ الإمام أبي القاسم الإسكاف الإسفرايني وكان يواظب على مجلسه وقد سمعته يقول في أثناء كلامه كنت علقت عليه في الأصول أجزاء معدودة وطالعت في نفسي مائة مجلدة

وكان يصل الليل بالنهار في التحصيل حتى فرغ منه ويبكر كل يوم قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مجلس الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القرآن ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكنه مع مواظبته على التدريس وينفق ما ورثه وما كان له من الدخل على إجراء المتفقهة ويجتهد في ذلك ويواظب على المناظرة إلى أن ظهر التعصب بين الفريقين واضطرت الأحوال والأمور فاضطر إلى السفر والخروج عن البلد فخرج مع المشايخ إلى المعسكر وخرج إلى بغداد يطوف مع المعسكر ويلتقي بالأكابر من العلماء ويدارسهم ويناظرهم حتى تهذب في النظر وشاع ذكره

ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب ويقبل على التحصيل إلى أن اتفق رجوعه بعد مضي نوبة التعصب فعاد إلى نيسابور وقد ظهرت نوبة ولاية السلطان ألب أرسلان وتزين وجه الملك بإشارة نظام الملك واستقرت أمور الفريقين وانقطع التعصب فعاد إلى التدريس وكان بالغا في العلم نهايته مستجمعا أسبابه فبنيت المدرسة الميمونة النظامية وأقعد للتدريس فيها واستقامت أمور الطلبة

وبقي على ذلك قريبا من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع مسلما له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة والمناظرة وهجرت له المجالس وانغمر غيره من الفقهاء بعلمه وتسلطه وكسدت الأسواق في جنبه ونفق سوق المحققين من خواصه وتلامذته وظهرت تصانيفه وحضر درسه الأكابر والجم العظيم من الطلبة وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة

وتخرج به جماعة من الأئمة والفحول وأولاد الصدور حتى بلغوا محل التدريس في زمانه

وانتظم بإقباله على العلم ومواظبته على التدريس والمناظرة والمباحثة أسباب ومحافل ومجامع وإمعان في طلب العلم وسوق نافقة لأهله لم تعهد قبله

واتصل به ما يليق بمنصبه من القبول عند السلطان والوزير والأركان ووفور الحشمة عندهم بحيث لا يذكر غيره فكان المخاطب والمشار إليه والمقبول من قبله والمهجور من هجره والمصدر في المجالس من ينتمي إلى خدمته والمنظور إليه من يغترف في الأصول والفروع من طريقته

واتفق منه تصانيف برسم الحضرة النظامية مثل النظامي والغياثي وإنفاذها إلى الحضرة ووقوعها موقع القبول ومقابلتها بما يليق بها من الشكر والرضا والخلع الفائقة والمراكب المثمنة والهدايا والمرسومات

وكذلك إلى أن قلد زعامة الأصحاب ورياسة الطائفة وفوض إليه أمور الأوقاف

وصارت حشمته وزر العلماء والأئمة والقضاة وقوله في الفتوى مرجع العظماء والأكابر والولاة

واتفقت له نهضة في أعلى ما كان من أيامه إلى أصبهان بسبب مخالفة بعض من الأصحاب فلقي بها من المجلس النظامي ما كان اللائق بمنصبه من الاستبشار والإعزاز والإكرام بأنواع المبار وأجيب بما كان فوق مطلوبه وعاد مكرما إلى نيسابور

وصار أكثر عنايته مصروفا إلى تصنيف المذهب الكبير المسمى بنهاية المطلب في دراية المذهب حتى حرره وأملاه وأتى فيه من البحث والتقرير والسبك والتنقير والتدقيق والتحقيق بما شفى الغليل وأوضح السبيل ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة ودرس ذلك للخواص من التلامذة وفرغ منه ومن إتمامه فعقد مجلسا لتتمة الكتاب حضره الأئمة والكبار وختم الكتاب على رسم الإملاء والاستملاء وتبجح الجماعة بذلك ودعوا له وأثنوا عليه وكان من المعتدين بإتمام ذلك الشاكرين لله عليه فما صنف في الإسلام قبله مثله ولا اتفق لأحد ما اتفق له ومن قاس طريقته بطريقة المتقدمين في الأصول والفروع وأنصف أقر بعلو منصبه ووفور تعبه ونصبه في الدين وكثرة سهره في استنباط الغوامض وتحقيق المسائل وترتيب الدلائل

ولقد قرأت فصلا ذكره علي بن الحسن بن أبي الطيب الباخرزي في كتاب دمية القصر مشتملا على حاله وهو فقد كان في عصر الشباب غير مستكمل ما عهدناه عليه من اتساق الأسباب وهو أن قال فتى الفتيان ومن أنجب به الفتيان ولم يخرج مثله المفتيان عنيت النعمان بن ثابت ومحمد بن إدريس فالفقه فقه الشافعي والأدب أدب الأصمعي وحسن بصره بالوعظ للحسن البصري وكيفما كان فهو إمام كل إمام والمستعلي بهمته على كل همام والفائز بالظفر على إرغام كل ضرغام إذا تصدر للفقه فالمزني من مزنته قطرة وإذا تكلم فالأشعري من وفرته شعره وإذا خطب ألجم الفصحاء بالعي شقاشقه الهادرة ولثم البلغاء بالصمت حقائقه الباردة ولولا سده مكان أبيه بسده الذي أفرغ على قطره قطر تأبيه لأصبح مذهب الحديث حديثا ولم يجد المستغيث منهم مغيثا

قال أبو الحسن هذا وهو وحق الحق فوق ما ذكره وأعلى مما وصفه فكم من فصل مشتمل على العبارات الفصيحة العالية والنكت البديعة النادرة في المحافل منه سمعناه

وكم من مسائل في النظر شهدناه ورأينا منه إفحام الخصوم وعهدناه

وكم من مجلس في التذكير للعوام مسلسل المسائل مشحون بالنكت المستنبطة من مسائل الفقه مشتملة على حقائق الأصول مبكية في التحذير مفرجة في التبشير مختومة بالدعوات وفنون المناجاة حضرناه

وكم من مجمع للتدريس حاو للكبار من الأئمة وإلقاء المسائل عليهم والمباحثة في غورها رأيناه وحصلنا بعض ما أمكننا منه وعلقناه ولم نقدر ما كنا فيه من نضرة أيامه وزهرة شهوره وأعوامه حق قدره ولم نشكر الله عليه حق شكره حتى فقدناه وسلبناه

وسمعته في أثناء كلام يقول أنا لا أنام ولا آكل عادة وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلا كان أو نهارا وآكل إذا اشتهيت الطعام أي وقت كان

وكان لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أي نوع كان

ولقد سمعت الشيخ أبا الحسن علي بن فضال بن علي المجاشعي النحوي القادم علينا سنة تسع وستين وأربعمائة يقول وقد قبله الإمام فر الإسلام وقابله بالإكرام وأخذ في قراءة النحو عليه والتلمذة له بعد أن كان إمام الأئمة في وقته وكان يحمله كل يوم إلى داره ويقرأ عليه كتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب من تصنيفه فكان يحكي يوما ويقول ما رأيت عاشقا للعلم أي نوع كان مثل هذا الإمام فإنه يطلب العلم للعلم وكان كذلك

ومن حميد سيرته أنه ما كان يستصغر أحدا حتى يسمع كلامه شاديا كان أو متناهيا فإن أصاب كياسة في طبع أو جريا على منهاج الحقيقة استفاد منه صغيرا كان أو كبيرا ولا يستنكف عن أن يعزى الفائدة المستفادة إلى قائلها ويقول إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان ولا يحابي أحدا في التزييف إذا لم يرض كلاما ولو كان أباه أو أحدا من الأئمة المشهورين

وكان من التواضع لكل أحد بمحل يتخيل منه الاستهزاء لمبالغته فيه ومن رقة القلب بحيث يبكي إذا سمع بيتا أو تفكر في نفسه ساعة

وإذا شرع في حكاية الأحوال وخاض في علوم الصوفية في فصول مجالسه بالغدوات أبكى الحاضرين ببكائه وقطر الدماء من الجفون بزعقاته ونعراته وإشاراته لاحتراقه في نفسه وتحققه بما يجري من دقائق الأسرار

هذه الجملة نبذ مما عهدناه منه إلى انتهاء أجله فأدركه قضاء الله الذي لا بد منه بعد ما مرض قبل ذلك مرض اليرقان وبقي به أياما ثم برأ منه وعاد إلى الدرس والمجلس وأظهر الناس من الخواص والعوام السرور بصحته وإقباله من علته فبعد ذلك بعهد قريب مرض المرضة التي توفي فيها وبقي فيها أياما وغلبت عليه الحرارة التي كانت تدور في طبعه إلى أن ضعف وحمل إلى بشتنقان لاعتدال الهواء وخفة الماء فزاد الضعف وبدت عليه مخايل الموت وتوفي ليلة الأربعاء بعد صلاة العتمة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ونقل في الليلة إلى البلد وقام الصياح من كل حانب وجزع الفرق عليه جزعا لم يعهد مثله وحمل بين الصلاتين من يوم الأربعاء إلى ميدان الحسين ولم تفتح الأبواب في البلد ووضعت المناديل عن الرءوس عاما بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه من الرءوس والكبار

وصلى عليه ابنه الإمام أبو القاسم بعد جهد جهيد حتى حمل إلى داره من شدة الزحمة وقت التطفيل ودفن في داره وبعد سنين نقل إلى مقبرة الحسين

وكسر منبره في الجامع المنيعي وقعد الناس للعزاء أياما عزاء عاما وأكثر الشعراء المراثي فيه

وكان الطلبة قريبا من أربعمائة نفر يطوفون في البلد نائحين عليه مكسرين المحابر والأقلام مبالغين في الصياح والجزع

وكان مولده ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة وتوفي وهو ابن تسع وخمسين سنة

سمع الحديث الكثير في صباه من مشايخ مثل الشيخ أبي حسان وأبي سعد ابن عليك وأبي سعد النصروي ومنصور بن رامش وجمع له كتاب الأربعين فسمعناه منه بقراءتي عليه

وقد سمع سنن الدارقطني من أبي سعد بن عليك وكان يعتمد تلك الأحاديث في مسائل الخلاف ويذكر الجرح والتعديل منها في الرواة

وظني أن آثار جده واجتهاده في دين الله يدوم إلى يوم الساعة وإن انقطع نسله مكتسب والله تعالى يسقي في كل لحظة جديدة تلك الروضة الشريفة عزالي رحمته ويزيد في ألطافه وكرامته بفضله ومنته إنه ولي كل خير

ومما قيل عند وفاته

قلوب العالمين على المقالي ** وأيام الورى شبه الليالي

أيثمر غصن أهل الفضل يوما ** وقد مات الإمام أبو المعالي

انتهى كلام عبد الغافر

وقد ساقه بكماله الحافظ ابن عساكر في كتاب التبيين

وأما شيخنا الذهبي غفر الله له فإنه حار كيف يصنع في ترجمة هذا الإمام الذي هو من محاسن هذه الأمة المحمدية وكيف يمزقها فقرطم ما أمكنه ثم قال وقد ذكره عبد الغافر فأسهب وأطنب

إلى أن قال وكان يذكر دروسا وساق نحو ثلاثة أسطر من أخريات كلام عبد الغافر ثم كأنه سئم ومل لأن مثله مثل محمول على تقريظ عدو له فقال بعد أن انتهى من ذكر السطور الثلاثة التي حكاها ما نصه وذكر الترجمة بطولها انتهى

فيقال له هلا زينت كتابك بها وطرزته بمحاسنها فإنه أولى من خرافات تحكيها لأقوام لا يعبأ الله بهم بل ذكر أمورا سنبحث عنها بعد أن نتكلم على ألفاظ غريبة وقعت في هذه الترجمة

قوله ترعرع أي تحرك ونشأ

قوله يفع كذا وجدته وصوابه أيفع بهمزة يقال أيفع الغلام أي ارتفع فهو يافع وغلام يقع أي مرتفع

قوله يبر على ما عهد من الأثر أي يزيد ويعلو

وهو بضم الياء آخر الحروف

وأبر فلان على أصحابه أي علاهم

قول الباخرزي في دمية القصر حقائقه البادرة أي الحادة والبادرة الحدة أو البديهة فإن البادرة تطلق عليهما

قوله ولولا سده مكان أبيه سد بفتح السين وهو مضاف إلى الفاعل ومكان مفعوله

قوله بسدة بضم السين ويجوز فتحها أي بحاجزه والسد الجبل والحاجز

قوله أفرغ على قطره القطر بضم القاف هو الناحية

قوله قطر بكسر القاف وسكون الطاء وهو النحاس المذاب

ومنه قوله تعالى ‏{‏أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا‏}

ومذهب الحديث مذهب الشافعية وذلك اصطلاح أهل خراسان إذا أطلقوا أصحاب الحديث يعنون الشافعية

وتمام كلام الباخرزي بعد ذلك في دمية القصر وله يعني لإمام الحرمين شعر لا يكاد يبديه وأرجو أن يضيفه قبل إلى سوالف أياديه وأطال فيه

وذكر أنه بيض صحفه عساه ينشده من شعره شيئا يكتبه فيها وما كان الإمام يسمح بإنشاد شعر نفسه اقتفاء بأثر والده

وبشتنقان بضم الباء الموحدة والشين المعجمة والتاء المثناة والنون الساكنة والقاف قرية على نصف فرسخ من مدينة نيسابور

وقد حكى شيخنا الذهبي كسر المنبر والأقلام والمحابر وأنهم أقاموا على ذلك حولا

ثم قال وهذا من فعل الجاهلية والأعاجم لا من فعل أهل السنة والأتباع

قلت وقد حاز هذا الرجل ما الذي يؤذي به هذا الإمام وهذا لم يفعله الإمام ولا أوصى به أن يفعل حتى يكون غضا منه وإنما حكاه الحاكون إظهارا لعظمة الإمام عند أهل عصره وأنه حصل لأهل العلم على كثرتهم فقد كانوا نحو أربعمائة تلميذ ما لم يتمالكوا معه الصبر بل أداهم إلى هذا الفعل ولا يخفى أنه لو لم تكن المصيبة عندهم بالغة أقصى الغايات لما وقعوا في ذلك

وفي هذا أوضح دلالة لمن وفقه الله على حال هذا الإمام رضي الله عنه وكيف كان شأنه فيما بين أهل العلم في ذلك العصر المشحون بالعلماء والزهاد

ذكر زيادات أخر في ترجمة إمام الحرمين جمعناها من متفرقات الكتب

عن الشيخ أبي محمد الجويني والد الإمام قال رأيت إبراهيم الخليل عليه السلام في المنام فأهويت لأقبل رجله فمنعني من ذلك تكريما لي فاستدبرت فقبلت عقبين فأولت ذلك الرفعة والبركة تبقى في عقبي

قلت وأي رفعة وبركة أعظم من هذا الإمام الذي طبق ذكره طبق الأرض وعم نفعه في مشارقها ومغاربها

وعن إمام الحرمين ما تكلمت في علم الكلام كلمة حتى حفظت من كلام القاضي أبي بكر وحده اثنى عشر ألف ورقة

سمعت الشيخ الإمام يحكي ذلك

قلت انظر هذا الأمر العظيم وهذه المجلدات الكثيرة التي حفظها من كلام شخص واحد في علم واحد فبقى كلام غيره والعلوم الأخر التي له فيها اليد الباسطة والتصانيف المستكثرة فقها وأصولا وغيرهما وكأن مراده بالحفظ فهم تلك واستحضارها لكثرة المعاودة وأما الدرس عليها كما يدرس الإنسان المختصرات فأظن القوى تعجز عن ذلك

ويحكى أنه قال يوما للغزالي يا فقيه

فرأى في وجهه التغير كأنه استقل هذه اللفظة على نفسه فقال له افتح هذا البيت ففتح مكانا وجده مملوءا بالكتب فقال له ما قيل لي يا فقيه حتى أتيت على هذه الكتب كلها

وذكر ابن السمعاني أبو سعد في الذيل أنه قرأ بخط أبي جعفر محمد بن أبي علي بن محمد الهمذاني الحافظ سمعت أبا المعالي الجويني يقول لقد قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها كل ذلك في طلب الحق وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله فالويل لابن الجويني يريد نفسه

قلت ظاهر هذه الحكاية عند من لا تحقيق عنده البشاعة وأنه خلى الإسلام وأهله وليس هذا معناها بل مراده أنه أنزل المذاهب كلها في منزلة النظر والاعتبار غير متعصب لواحد منها بحيث لا يكون عنده ميل يقوده إلى مذهب معين من غير برهان ثم توضح له الحق وأنه الإسلام فكان على هذه الملة عن اجتهاد وبصيرة لا عن تقليد ولا يخفى أن هذا مقام عظيم لا يتهيأ إلا لمثل هذا الإمام وليس يسمع به لكل أحد فإن غائلته تخشى إلا على من برز في العلوم وبلغ في صحة الدهن مبلغ هذا الرجل العظيم فأرشد إلى أن الذي ينبغي عدم الخوض في هذا واستعمال دين العجائز

ثم أشار إلى أنه مع بلوغه هذا المبلغ وأخذه الحق عن الاجتهاد والبصيرة لا يأمن مكر الله بل يعتقد أن الحق إن لم يدركه بلطفه ويختم له بكلمة الإخلاص فالويل له ولا ينفعه إذ ذاك علومه وإن كانت مثل مدد البحر

فانظر هذه الحكاية ما أحسنها وأدلها على عظمة هذا الإمام وتسليمه لربه تعالى وتفويضه الأمر إليه وعدم اتكاله على علومه ثم تعجب بعدها من جاهل يفهم منها غير المراد ثم يخبط خبط عشواء

وذكر ابن السمعاني أيضا أنه سمع أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان ذكر عن محمد بن طاهر المقدسي الحافظ قال سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب بنيسابور وكان ممن يختلف إلى درس إمام الحرمين أنه قال سمعت أبا المعالي يقول لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به

قلت أنا يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة وابن طاهر عنده تحامل على إمام الحرمين والقيرواني المشار إليه رجل مجهول ثم هذا الإمام العظيم الذي ملأت تلامذته الأرض لا ينقل هذه الحكاية عنه غير رجل مجهول ولا تعرف من غير طريق ابن طاهر إن هذا لعجيب وأغلب ظني أنها كذبة افتعلها من لا يستحي وأما الذي بلغ به رضي الله تعالى عنه علم الكلام أليس قد أعز الله به الحق وأظهر به السنة وأمات به البدعة ثم يقول لهذا الذي لا يفهم إن كان علم الكلام بلغ به الحق فلا يندم على الاشتغال به وإن بلغ به الباطل فإن لم يعرف أنه على الباطل وظن أنه على الحق فكذلك لا يندم وإن عرف أنه على باطل فمعرفته بأنه على باطل موجبة لرجوعه عنه فليس ثم ما ينتقد

ذكر ما وقع من التخبيط في كلام شيخنا الذهبي والتحامل على هذا الإمام العظيم في أمر هذا الإمام الذي هو من أساطين هذه الملة المحمدية نضرها الله

قد قدمنا لك من تحامل الذهبي عليه في تمزيقه كلام عبد الغافر وإنكاره ما فعل تلامذة الإمام عند موته وأنت إذا غرفت حال الذهبي لم تحتج إلى دليل يدل على أنه قد تحامل عليه

وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل

فمن كلام الذهبي وكان أبو المعالي مع تبحره في الفقه وأصوله لا يدري الحديث ذكر في كتاب البرهان حديث معاذ في القياس فقال هو مدون في الصحاح متفق على صحته

كذا قال وأنى له في الصحة ومداره على الحارث بن عمرو وهو مجهول عن رجال من أهل حمص لا يدرى من هم عن معاذ

انتهى

فأما قوله كان لا يدري الحديث فإساءة على مثل هذا الإمام لا تنبغي

وقد تقدم في كلام عبد الغافر اعتماده الأحاديث في مسائل الخلاف وذكره الجرح والتعديل فيها وعبد الغافر أعرف بشيخه من الذهبي ومن يكون بهذه المثابة كيف يقال عنه لا يدري الحديث وهب أنه زل في حديث أو حديثين أو أكثر فلا يوجب ذلك أن يقول لا يدري الفن وما هذا الحديث وحده ادعى الإمام صحته وليس بصحيح بل قد ادعى ذلك في أحاديث غيره ولم يوجب ذلك عندنا الغض منه ولا إنزاله عن مرتبته الصاعدة فوق آفاق السماء

ثم الحديث رواه أبو داود والترمذي وهما من دواوين الإسلام والفقهاء لا يتحاشون من إطلاق لفظ الصحاح عليهما لا سيما سنن أبي داود فليس هذا كبير أمر

ومن قبيح كلامه قال وقال المازري في شرح البرهان في قوله إن الله يعلم الكليات لا الجزئيات وددت لو محوتها بدمي

قلت هذه لفظة ملعونة قال ابن دحية هي كلمة مكذبة للكتاب والسنة يكفر بها هجره عليها جماعة وحلف القشيري لا يكلمه بسببها مدة فجاوز وتاب

انتهى

ما أقبحه فصلا مشتملا على الكذب الصراح وقلة الحق مستحلا على قائله بالجهل بالعلم والعلماء وقد كان الذهبي لا يدري شرح البرهان ولا هذه الصناعة ولكنه يسمع خرافات من طلبة الحنابلة فيعتقدها حقا ويودعها تصانيفه

أما قوله إن الإمام قال إن الله يعلم الكليات لا الجزئيات يقال له ما أجرأك على الله متى قال الإمام هذا ولا خلاف بين أئمتنا في تكفير من يعتقد هذه المقالة وقد نص الإمام في كتبه الكلامية بأسرها على كفر من ينكر العلم بالجزئيات وإنما وقع في البرهان في أصول الفقه شيء استطرده القلم إليه فهم منه المازري ثم أمر هذا وذكر ما سنحكيه عنه وسنجيب عن ذلك ونعقد له فصلا مستقلا

وأما قوله قلت هذه لفظة ملعونة فنقول لعن الله قائلها

وأما قوله قال ابن دحية إلى آخر ما حكاه عنه

فنقول هل يحتاح مثل هذه المقالة إلى كلام ابن دحية ولو قرأ الرجل شيئا من علم الكلام لما احتاج إلى ذلك فلا خلاف بين المسلمين في تكفير منكري العلم بالجزئيات وهي إحدى المسائل التي كفرت بها الفلاسفة

وأما قوله وحلف القشيري لا يكلمه بسببها مدة فمن نقل له ذلك وفي أي كتاب رآه وأقسم بالله يمينا بارة إن هذه مختلقة على القشيري وقد كان القشيري من أكثر الخلق تعظيما للإمام وقدمنا عنه عبارة المدرجوركيه وهي قوله في حقه لو ادعى النبوة لأغناه كلامه عن إظهار المعجزة

وابن دحية لا تقبل روايته فإنه متهم بالوضع على رسول الله ظنك بالوضع على غيره والذهبي نفسه معترف بأنه ضعيف وقد بالغ في ترجمته في الإزراء عليه وتقرير أنه كذاب ونقل تضعيفه عن الحافظ أيضا وعن ابن نقطة وغير واحد

وأخبر الناس به الحافظ ابن النجار اجتمع به وجالسه وقال في ترجمته رأيت الناس مجمعين على كذبه وضعفه قال وكانت أمارات ذلك لائحة عليه

وأطال في ذلك

وبالجملة لا أعرف محدثا إلا وقد ضعف ابن دحية وكذبه لا الذهبي ولا غيره وكلهم يصفه بالوقيعة في الأئمة والاختلاق عليهم وكفى بذلك

وأما قوله وبقي بسببها مدة مجاورا وتاب فمن البهت لم ينف الإمام أحد وإنما هو خرج ومعه القشيري وخلق في واقعة الكندري التي حكيتها في ترجمة الأشعري وفي ترجمة أبي سهل بن الموفق وهي واقعة مشهورة خرج بسببها الإمام والقشيري والحافظ البيهقي وخلق كان سببها أن الكندري أمر بلعن الأشعري على المنابر ليس غير ذلك ومن ادعى غير ذلك فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا

ومن كلامه أيضا أخبرنا يحيى بن أبي منصور الفقيه وغيره من كتابهم عن الحافظ عبد القادر الرهاوي عن أبي العلاء الحافظ الهمذاني أخبره قال أخبرني أبو جعفر الهمذاني الحافظ قال سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله تعالى ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ فقال كان الله ولا عرش

وجعل يتخبط في الكلام

فقلت قد علمنا ما أشرت إليه فهل عند الضرورات من حيلة فقال ما تريد بهذا القول وما تعني بهذه الإشارة قلت ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوقية فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة فبينها نتخلص من الفوق والتحت وبكيت وبكى الخلق

فضرب بيده على السرير وصاح بالحيرة وخرق ما كان عليه وصارت قيامة في المسجد فنزل ولا يجبني إلا بتأفيف الدهشة والحيرة وسمعت بعد هذا أصحابه يقولون سمعناه يقول حيرني الهمذاني

انتهى

قلت قد تكلف لهذه الحكاية وأسندها بإجازة على إجازة مع ما في إسنادها ممن لا يخفى محاطة على الأشعري وعدم معرفته بعلم الكلام

ثم أقول يا لله ويا للمسلمين أيقال عن الإمام إنه يتخبط عند سؤال سأله إياه هذا المحدث وهو أستاذ المناظرين وعلم المتكلمين أو كان الإمام عاجزا عن أن يقول له كذبت يا ملعون فإن العارف لا يحدث نفسه بفوقية الجسمية ولا يحدد ذلك إلا جاهل يعتقد الجهة بل نقول لا يقول عارف يا رباه إلا وقد غابت عنه الجهات ولو كانت جهة فوق مطلوبة لما منع المصلي من النظر إليها وشدد عليه في الوعيد عليها

وأما قوله صاح بالحيرة وكان يقول حيرني الهمذاني فكذب ممن لا يستحيي وليت شعري أي شبهة أوردها وأي دليل اعترضه حتى يقول حيرني الهمذاني ثم أقول إن كان الإمام متحيرا لا يدري ما يعتقد فواها على أئمة المسلمين من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة إلى اليوم فإن الأرض لم تخرج من لدن عهده أعرف منه بالله ولا أعرف منه فيالله ماذا يكون حال الذهبي وأمثاله إذا كان مثل الإمام متحيرا إن هذا لخزي عظيم

ثم ليت شعري من أبو جعفر الهمذاني في أئمة النظر والكلام ومن هو من ذوي التحقيق من علماء المسلمين

ثم أعاد الذهبي الحكاية عن محمد بن طاهر عن أبي جعفر وكلاهما لا يقبل نقله وزاد فيها أن الإمام صار يقول يا حبيبي ما ثم إلا الحيرة فإنا لله وإنا إليه راجعون لقد ابتلى المسلمون من هؤلاء الجهلة بمصيبة لا عزاء بها

ثم ذكر أن أبا عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال دخلنا على أبي المعالي في مرضه فقال اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور

انتهى

وهذه الحكاية ليس فيها شيء مستنكر إلا ما يوهم أنه كان على خلاف السلف

ونقل في العبارة زيادة على عبارة الإمام

ثم أقول للأشاعرة قولان مشهوران في إثبات الصفات هل تمر على ظاهرها مع اعتقاد التنزيه أو تؤول

والقول بالإمرار مع اعتقاد التنزيه هو المعزو إلى السلف وهو اختيار الإمام في الرسالة النظامية وفي مواضع من كلامه فرجوعه معناه الرجوع عن التأويل إلى التفويض ولا إنكار في هذا ولا في مقابلة فإنها مسألة اجتهادية أعني مسألة التأويل أو التفويض مع اعتقاد التنزيه إنما المصيبة الكبرى والداهية الدهياء الإمرار على الظاهر والاعتقاد أنه المراد وأنه لا يستحيل على الباري فلذلك قول المجسمة عباد الوثن الذين في قلوبهم زيغ يحملهم الزيغ على اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة عليهم لعائن الله تترى واحدة بعد أخرى ما أجراهم على الكذب وأقل فهمهم للحقائق

شرح حال مسألة الاسترسال التي وقعت في كتاب البرهان

اعلم أن هذا الكتاب وضعه الإمام في أصول الفقه على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد وأنا أسميه لغز الأمة لما فيه مصاعب الأمور وأنه لا يخلي مسألة عن إشكال ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه وتحقيقات يستبد بها

وهذا الكتاب من مفتخرات الشافعية وأنا أعجب لهم فليس منهم من انتدب لشرحه ولا للكلام عليه إلا مواضع يسيرة تكلم عليها أبو المظفر بن السمعاني في كتاب القواطع وردها على الإمام وإنما انتدب له المالكية فشرحه الإمام أبو عبد الله المازري شرحا لم يتمه وعمل عليه أيضا مشكلات ثم شرحه أيضا أبو الحسن الأنباري من المالكية ثم جاء شخص مغربي يقال له الشريف أبو يحيى جمع بين الشرحين وهؤلاء كلهم عندهم بعض تحامل على الإمام من جهتين

إحداهما أنهم يستصعبون مخالفة الإمام أبي الحسن الأشعري ويرونها هجنة عظيمة والإمام لا يتقيد لا بالأشعري ولا بالشافعي لا سيما في البرهان وإنما يتكلم على حسب تأيدة نظره واجتهاده وربما خالف الأشعري وأتى بعبارة عالية على عادة فصاحته فلا تحمل المغاربة أن يقال مثلها في حق الأشعري

وقد حكينا كثيرا من ذلك في شرحنا على مختصر ابن الحاجب

والثانية أنه ربما نال من الإمام مالك رضي الله تعالى عنه كما فعل في مسألة الاستصلاح والمصالح المرسلة وغيرها

وبهاتين الصفتين يحصل للمغاربة بعض التحامل عليه مع اعترافهم بعلو قدره واقتصارهم لا سيما في علم الكلام على كتبه ونهيهم عن كتب غيره

ثم اعلم أن لهذا الإمام من الحقوق في الإسلام والمناضلة في علم الكلام عن الدين الحنيفي ما لا يخفى على ذي تحصيل وقد فهم عنه المازري إنكار العلم بالجزئيات وأنكر وأفرط في التغليظ عليه وأشبع القول في تقرير إحاطة العلم القديم بالجزئيات ولا حاجة به إليه فإن أحدا لم ينازعه فيه وإنما هو تصور أن الإمام ينازعه فيه

ومعاذ الله أن يكون ذلك

ولقد سمعت الشيخ الإمام رحمه الله غير مرة يقول لم يفهم المازري كلام الإمام ولم أسمع منه زيادة على هذا وقلت أنا له رحمه الله إذ ذاك لو كان الإمام على هذه العقيدة لم يحتج إلى أن يدأب نفسه في تصنيف النهاية في الفقه وفيه جزئيات لا تنحصر والعلم غير متعلق على هذا التقدير عنده بها

وقلت له أيضا هذا كتاب الشامل للإمام في مجلدات عدة في علم الكلام والمسألة المذكورة حقها أن تقرر فيه لا في البرهان فلم لا يكشف عن عقيدته فيه فأعجبه ذلك

وأقول الآن قبل الخوض في كلام الإمام والمازري لقد فحصت عن كلمات هذا الإمام في كتبه الكلامية فوجدت إحاطة علم الله تعالى عنده بالجزئيات أمرا مفروغا منه وأصلا مقررا يكفر من خالفه فيه

وهذه مواضع من كلامه قال في الشامل في القول في إقامة الدلائل على الحياة والعلم بعد أن قرر إجماع الأمة على بطلان قول من يثبت علمين قديمين ما نصه فلم يبق إلا ما صار إليه أهل الحق من إثبات علم واحد قديم متعلق بجميع المعلومات

انتهى

ثم قال فإن قال قائل إذا جوزتم أن يخالف علم القديم العلم الحادث ولم تمنعوا أن يتعلق العلم الواحد بما لا يتناهى ومنعتم ذلك في العلم الحادث واندفع في سؤال أورده ثم قال قلنا الدلالة دلت على وجوب كون القديم عالما بجميع المعلومات

ثم قال فإن قيل ما دليلكم على وجوب كونه عالما بكل المعلومات وبم تنكرون على من يأبى ذلك قلت قد تدبرت كلام المشايخ في كتبهم ومصنفاتهم وأحطت في غالب ظني بكل ما قالوه

وذكر طريقة ارتضاها في الدلالة على ذلك وختمها بما نصه فهذه هي الدلالة القاطعة على وجوب كون الإله سبحانه عالما بكل معلوم

انتهى

وقال في باب القول في أن العلم الحادث هل يتعلق بمعلومين ما نصه إذا علم العالم منا أن معلومات الباري لا تتناهى انبهر

وكرر في هذا الفصل أنه تعالى يعلم ما لا يتناهى على التفصيل غير ما مرة ولا معنى للتطويل في ذلك وكتبه مشحونه به

وقال في الإرشاد في مسألة تقرير العلم القديم ما نصه ومما يتمسكون به أن قالوا علم الباري سبحانه وتعالى على زعمك يتعلق بما لا يتناهى من المعلومات على التفصيل

انتهى

ثم لما أجاب عن شبهة القوم قرر هذا التقرير وهو عنده مفروغ منه

وكذلك في البرهان في باب النسخ صرح بأن الله تعالى يعلم على سبيل التفصيل كل شيء

إذا عرفت ذلك فأنا على قطع بأنه معترف بإحاطة العلم بالجزئيات

فإن قلت وما بيان هذا الكلام الواقع في البرهان قلت العالم من يدعو الواضح واضحا والمشكل مشكلا

وهو كلام مشكل بحيث أبهم أمره على المازري مع فرط ذكائه وتضلعه بعلوم الشريعة وأنا أحكيه ثم أقرره وأبين لك أن القوم لم يفهموا إيراد الإمام وأن كلامه المشار إليه مبني على إحاطة العلم القديم بالجزئيات فكيف يؤخذ منه خلافه فأقول قال الإمام وأما المميز بين الجواز المحكوم به والجواز بمعنى التردد والشك فلائح ومثاله أن العقل يقضي بجواز تحرك جسم وهذا الجواز ثبت بحكم العقل وهو نقيض الاستحالة وأما الجواز المتردد فكثير ونحن نكتفي فيه بمثال واحد ونقول تردد المتكلمون في انحصار الأجناس كالألوان فقطع القاطعون بأنها غير متناهية في الإمكان كآحاد كل جنس وزعم آخرون أنها منحصرة

وقال المقتصدون لا ندري أنها منحصرة لم يبنوا مذهبهم على بصيرة وتحقيق

والذي أراه قطعا أنها منحصرة فإنها لو كانت غير منحصرة لتعلق العلم بها بآحاد على التفصيل وذلك مستحيل

فإن استنكر الجهلة ذلك وشمخوا بآنافهم وقالوا الباري تعالى عالم بما لا يتناهى على التفصيل سفهنا عقولهم وأحلنا تقرير هذا الفن على أحكام الصفات وبالجملة علم الله تعالى إذا تعلق بجواهر لا نهاية لها فمعنى تعلقه بها استرساله عليها من غير تعرض لتفصيل الآحاد مع نفي النهاية فإن ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود يحيل وقوع تقريرات غير متناهية في العلم والأجناس المختلفة التي فيها الكلام يستحيل استرسال الكلام عليها فإنها متباينة الجواهر وتعلق العلم بها على التفصيل مع نفي النهاية محال وإذا لاحت الحقائق فليقل الأخرق بعدها ما شاء

انتهى كلامه في البرهان

والذي أراه لنفسي ولمن أحبه الاقتصار على اعتقاد أن علم الله تعالى محيط بالكليات والجزئيات جليلها وحقيرها وتكفير من يخالف في واحد من الفصلين واعتقاد أن هذا الإمام بريء من المخالفة في واحد منهما بدليل تصريحه في كتبه الكلامية بذلك وأن أحدا من الأشاعرة لم ينقل هذا عنه مع تتبعهم لكلامه ومع أن تلامذته وتصانيفه ملأت الدنيا ولم يعرف أن أحدا عزا ذلك إليه وهذا برهان قاطع على كذب من تفرد بنقل ذلك عنه فإنه لو كان صحيحا لتوفرت الدواعي على نقله ثم إذا عرض هذا الكلام نقول هذا مشكل نضرب عنه صفحا مع اعتقاد أن ما فهم منه من أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات ليس بصحيح ولكن هناك معنى غير ذلك لسنا مكلفين بالبحث عنه وإذا دفعنا إلى هذا الزمان الذي شمخت الجهال فيه بأنوفها وأرادوا الضعة من قدر هذا الإمام وأشاعوا أن هذا الكلام منه دال على أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات أحوجنا ذلك إلى الدفاع عنه وبيان سوء فهمهم واندفعنا في تقرير كلامه وإيضاح معناه

فنقول مقصود الإمام بهذا الكلام الفرق بين إمكان الشيء في نفسه وهو كونه ليس بمستحيل وعبر عنه بالجواز المحكوم به ومثل له بجواز تحرك جسم ساكن وبين الإمكان الذهني وهو الشك والتوقف وعدم العلم بالشيء وإن كان الشيء في نفسه مستحيلا وعبر عنه بالجواز بمعنى التردد ومثل له بالشك في تناهي الأجناس وعدم تناهيها عند الشاكين مع أن عدم تناهيها يستحيل عنده وإلى استحالته أشار بقوله والذي أراه قطعا أنها منحصرة واستدل على ذلك بأنها لو كانت غير منحصرة لتعلق العلم بآحاد لا تتناهى على التفصيل لأن الله تعالى عالم بكل شيء فإذا كانت الأجناس غير متناهية وجب أن يعلمها غير متناهية لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه وهي لا تفصيل لها حتى يعلمه على التفصيل فالرب تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه إن مجملة فمجملة وإن مفصلة فمفصلة والأجناس المختلفة متباينة بحقائقها فإذا علم وجب أن يعلمها مفصلة متمايزة بعضها عن بعض

وأما أن ذلك يستحيل فلأن كل معلوم على التفصيل فهو منحصر متناه كما أنه موجود في الخارج فهو منحصر متناه لوجوب تشخصها في الذهن كما في الخارج

واعلم أن الإمام إنما سكت عن بيان الملازمة لأن دليلها كالمفروغ منه

وقوله فإن استنكر الجهلة ذلك وقالوا الباري عالم بما لا يتناهى على التفصيل هو إشارة إلى اعتراض على قوله وذلك مستحيل

تقريره أن البارىء تعالى عالم بما لا يتناهى على التفصيل وهذا أصل مفروغ منه وإذا كان كذلك فقولك إن تعلق العلم بما لا يتناهى مستحيل قول ممنوع

وقوله سفهنا عقولهم هو جواب الاعتراض

وقوله وأحلنا تقرير هذا الفن على أحكام الصفات إشارة إلى أن تقرير استحالة تعلق العلم بما لا يتناهى على التفصيل مذكور في باب أحكام الصفات وكتب أصول الدين

وقوله وبالجملة هو بيان لكيفية تعلق علم الله تعالى بما لا يتناهى مع صلاحية كونه جوابا عن الاعتراض المذكور وتقريره أن علم الله سبحانه وتعالى إذا تعلق بجواهر لا نهاية لها كان معنى تعلقه بها استرساله عليها ومعنى استرساله عليها والله أعلم هو أن علمه سبحانه وتعالى يتعلق بالعلم الكلي الشامل لها على سبيل التفصيل فيسترسل عليها من غير تفصيل الآحاد لتعلقه بالشامل لها من غير تمييز بعضها عن بعض تعلقه بها على هذا الوجه وعدم تعلقه بها على سبيل التفصيل ليس بنقص في التفصيل فيها مع نفي النهاية مستحيل فإذا وجب أن تكون غير مفصلة ووجب أن يعلمها غير مفصلة لوجوب تعلق العلم بالشيء على ما هو عليه

وقوله فإن ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم أي إنما تعلق علمه بها على سبيل الاسترسال لا على سبيل التفصيل لأن المعلوم على التفصيل يستحيل أن يكون غير متناه كما أن الموجود يستحيل أن يكون غير متناه فما ليس بمتناه يستحيل أن يكون مفصلا متميزا بعضه عن بعض فإذا تعلق العلم به وجب أن يكون معنى تعلقه استرساله عليه لوجوب تعلق العلم بالشيء على ما هو عليه من إجمال أو تفصيل

قوله والأجناس المختلفة التي فيها الكلام يستحيل استرسال العلم عليها جواب عن سؤال مقدر من جهة المعترض

تقرير السؤال إذا جاز استرسال العلم على الجواهر التي لا نهاية لها فلم لا تكون الأجناس المختلفة التي فيها الكلام يستحيل استرسال العلم عليها فإنها متباينة بالخواص أي بالحقائق فليس بينها قدر مشترك بنقلها يسترسل العلم بسبب تعلقه عليها

ولقائل أن يقول لم قلت إنه ليس بينها مدرك مسترسل وقوله وتعلق العلم بها على التفصيل مع نفي النهاية محال قد سبق في أول الدليل وإنما أعاده هنا لأنه مع الكلام المذكور آنفا يصلح أن يكون دليلا على المطلوب أعني أن الأجناس متناهية وتقريره أن الأجناس إذا كان استرسال العلم عليها مستحيلا وجب أن تكون معلومة على التفصيل وإلا لم تكن معلومة له سبحانه وتعالى وتعلق العلم بها على التفصيل مع نفي النهاية محال فوجب أن تكون محصورة متناهية

وإذا ظهر مقصود الإمام ألا وهو الفرق بين الإمكانين وثانيا وهو أن الأجناس متناهية ودليله على هذا وجوابه غير ما اعترض به عليه تبين أنه بنى دليله على قواعد إحداهما أن الله عز وجل عالم بكل شيء الجزئيات والكليات لا تخفى عليه خافية

والثانية أن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فيعلم الأشياء المجملة التي لا يتميز بعضها عن بعض مفصلة وهذا خلاف مذهب ابن سينا حيث زعم أنه تعالى لا يعلم الجزئيات الشخصية إلا على الوجه الكلي وذلك كفر صراح

والثالثة أن المعلومات الجزئية المتميزة المفصلة لا يمكن أن تكون غير متناهية تشبيها للوجود الذهني بالوجود الخارجي وإلى هذا أشار بقوله فإن ما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود يحيل وقوع تقديرات غير متناهية في العلم

والرابعة أن الأجناس المختلفة التي فيها الكلام متناهية بخواصها أي بحقائقها متميز بعضها عن بعض

وإنما قلنا إنه بنى كلامه على القواعد المذكورة لأنه لو لم يكن الرب عز وجل عالما بكل شيء لم يجب أن يعلم الأجناس ولأنه لو لم يعلم الأجناس أي الأشياء على ما هي عليه لم يجب إذا كانت غير متناهية أن يعلمها غير متناهية ولا إذا كانت متميزة بعضها عن بعض أن يعلمها مفصلة ولأنه لو لم تكن الأجناس التي فيها الكلام متباينة بحقائقها لم يجب أن يعلمها على التفصيل فظهر أن قوله لو كانت غير منحصرة تعلق العلم بما لا يتناهى على التفصيل وهو الملازمة مبني على هذه القواعد الثلاث وكذلك قوله في الجواب عن الاعتراض إن معنى تعلق العلم بالجواهر التي لا تتناهى هو استرساله عليها مبني على أنه يعلم الأشياء على ما هي عليه فإن ما لا يتناهى لا يتميز بعضه عن بعض

وأما قوله إن تعلق العلم على التفصيل بما لا يتناهى محال وهو انتفاء التالي فهو مبني على وجوب تعلق العلم بالشيء على ما هو عليه وعلى أن كل متميز بعضه عن بعض متناه فإنه لو لم يجب أن يعلم الأشياء على ما هي عليه لوجب أن يكون المتميز بعضه عن بعض غير متناه ولم يصح قوله وتعلق أهل العلم على التفصيل بما لا يتناهى محال والله أعلم

إن خرق المسألة أن ما لا يتناهى هل هو في نفسه متميز بعضه عن بعض أولا فإن كان وجب اعتقاد أن الرب تعالى يعلمه على التفصيل والإمام يخالف في ذلك وإن لم يكن لم يجز أن يعلمه على التفصيل كيلا يلزم الجهل وهو العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه ولا يخالف في ذلك عاقل ولا يشك في احتياج الإمام إلى دلالة على أن ما لا يتناهى لا تفصيل له ولا يتميز حتى يسلم له مراده وهو ممنوع

وقد سبقه إليه أبو عبد الله الحليمي من أئمة أصحابنا فقال في كتاب المنهاج المعروف بشعب الإيمان في الشعبة التاسعة فإن قال قائل أليس الله بكل شيء عليما قلنا بلى

فإن قال أفيعلم مبلغ حركات أهل الجنة وأهل النار قيل إنها لا مبلغ لنا وإنما يعرف ماله مبلغ فأما ما لا مبلغ له فيستحيل أن يوصف بأن يعلم مبلغه

واندفع الحليمي في هذا بعبارة أبسط من عبارة الإمام

وهذا الحليمي كان إماما في العلم والدين حبرا كبيرا ولكنا لا نوافقه على هذا ونمانعه ممانعة تتبين هنا في تضاعيف كلامنا وإنما أردنا بحكاية كلامه التنبيه على أن الإمام مسبوق بما ذكره سبقه إليه بعض عظماء أهل السنة

وإذا تبين من كلام الإمام ما قصده وظهر من القواعد ما بنى عليه غرضه علم أن من شنع عليه وأومأ بالكفر إليه غير سالم من أن يشنع عليه وأن ينسب الخطأ في فهم كلام الإمام إليه والذي تحرر من كلام الإمام دعواه عدم تفصيل ما لا يتناهى وليس في اعتقاد هذا القدر كفر

وقد أفرط أبو عبد الله المازري في ذلك ظنا منه أن الإمام ينفي العلم بالجزئيات وأن كلامه هذا لا يحتمل غير ذلك ولا يقبل التأويل

وقال أول ما نقله تحذير الواقف على كتابة هذا أن يصغي إلى هذا المذهب إلى أن قال وددت لو محوت هذا من هذا الكتاب بماء بصري لأن هذا الرجل له سابقة قديمة وآثار كريمة في عقائد الإسلام والذب عنها وتشييدها وتحسين العبارة عن حقائقها وإظهار ما أخفاه العلماء من أسراراها ولكنه في آخر أمره ذكر أنه خاض في فنون من علم الفلسفة وذاكر أحد أئمتها فإن ثبت هذا القول عليه وقطع بإضافة هذا المذهب في هذه المسألة إليه فإنما سهل عليه ركوب هذا المذهب إدمانه النظر في مذهب أولئك

ثم قال ومن العظيمة في الدين أن يقول مسلم إن الله سبحانه تخفى عليه خافية

إلى قوله والمسلمون لو سمعوا أحدا يبوح بذلك لتبرءوا منه وأخرجوه من جملتهم

إلى قوله إذا كان خطابي مع موحد مسلم نقول له إن زعمت أن الله سبحانه تخفى عليه خافية أو يتصور العقل معنى أو يثبت في الوجود صفة أو موصوف أو عرض أو جوهر أو حقائق نفسية أو معنوية وهو تعالى غير عالم به فقد فارق الإسلام وإن كان كلامنا مع ملحد فنرد عليه بالأدلة العقلية

قلت هذه العبارات من المازري تدل على أنه لم يفهم كلام الإمام أو فهم وقصد أن يشنع وهذا بعيد على الرجل فإنه من أئمة العلم والدين فالأغلب على ظني أنه لم يفهم وكيف يفهم كلام الإمام ولم يقصد التشنيع عليه من نسبته إلى اعتقاد الفلاسفة وأن الله سبحانه وتعالى تخفى عليه خافية أو أن العقل يتصور معنى والله عالم به أو يثبت في الوجود صفة أو موصوف أو جوهر أو عرض أو حقائق نفسية أو معنوية والرب غير عالم به أو أنه لا يعلم الجهات إلا على الوجه الكلي الذي هو مذهب الفلاسفة وقد بنى دليله كما سبق على أن الله عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية وأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه إن مجملة وإن مفصلة فمفصلة هذا ما لا يمكن ومع تصريحه في مواضع شتى بأن الله تعالى يعلم كل شيء

وقد بالغ في الشامل في الرد على من يعتقد أنه يعلم بعض المعلومات دون بعض

ثم إن المازري وهو أمر مفروغ منه عند المسلمين وكان الأولى بهم صرف العناية إلى فهم كلام الإمام لا أن سيعلم بما لا يخفى فهمه فيه الإمام ولا غيره فالذي ينبغي للمنصف الواقف على كلام الإمام أن يتأمله ليظهر له أن الإمام إنما منع من تعلق العلم التفصيلي بما لا تفصيل له وهي الأمور التي لا تتناهى باعتقاد عدم تمييز بعضها عن بعض وأن ما لا يتناهى لا يمكن أن يتميز بعضه عن بعض لا لكونها غير متناهية والمانع عنده من تعلق التفصيل بها هو عدم تمييز بعضها عن بعض لا لكونها غير متناهية وإنما تمنع من تعلق العلم التفصيلي بها والحالة هذه لأن الرب العليم الخبير إنما يعلم الأشياء على ما هلي عليه

والله أعلم

وأما الاستنباط الذي ذكره المازري من القطع بفساد ما ذهب إليه الإمام من مذهب الأشعري في أن العلم بالشيء مجملا لا يضاد العلم به مفصلا ففاسد لأن الإمام لم يمنع من تعلق العلم التفصيلي بما لا يتناهى لحد تعلق العلم الإجمالي به حتى يتوهم متوهم أنه يعتقد التضاد وقد صرح في الشامل أنهما غير متضادين بل إنما منع من ذلك لأن ما لا يتناهى لا يكون في نفسه إلا مجملا غير متميز بعضه عن بعض فإنه إذا امتنع أن يكون في نفسه متميزا امتنع تعلق العلم التفصيلي به لأن العلم إنما يتعلق بالشيء على ما هو عليه من إجمال أو تفصيل وإلا كان جهلا

وأما الأمور المتناهية المعلومة على سبيل الإجمال فإن الإمام قد لا يمنع العلم بها على سبيل التفصيل إذا كانت متميزة بعضها عن بعض كالسواد والبياض والحمرة وغيرها من أجناس الألوان فإنها معلومة لرب العالمين على سبيل الإجمال من حيث كونها أعراضا وألوانا وعلى سبيل التفصيل من حيث كونها سوادا أو بياضا وكذلك شرب زيد في الجنة من الكأس الفلاني الموصوف بصفاته المختصة به للإمام أن يقول هو معلوم لله تعالى إجمالا من حيث اندراجه تحت مطلق الشرب من كأس ماء من فضة أو ذهب المندرج تحت مطلق النعيم ومعلوم على التفصيل

وهنا وقفة في كيفية ذلك العلم التفصيلي بحث عن معرفتها الإمام المتكلم بهاء الدين عبد الوهاب بن عبد الرحمن المصري الإخميمي وكانت له يد باسطة في علم الكلام وكان يقول يعلم الله تعالى ذلك على التفصيل حيث تعلق الإرادة به وحين تعلق القدرة به فإنه إذا علمه أراده وإذا أراده أوجده كالمعلوم على التفصيل لا يكون إلا متناهيا

وأنكرت أنا عليه ذلك وقلت إنه يلزمه تجدد العلم القديم ولكن للإمام أن يقول يعلم على التفضيل الخارج منه إلى الوجود لأنه يعلم ما سيخرج منه وهنا نظر دقيق وهو أنك تقول إذا كان نعيم أهل الجنة لا يتناهى وما لا يتناهى عنده لا تفصيل له فكيف تقول إنه يعلمه مفصلا والفرض أن لا يفصل

والجواب أن ما لا يتناهى له حالتان حالة في العدم ولا كون له إذ ذاك ولا تفصيل عند الإمام وحالة خروجه من العدم إلى الوجود وهو مفصل يعلمه الرب تعالى مفصلا وهذا رد على المازري على قاعدة مذهب شيخنا أبي الحسن

ثم نقول مذهب إمام الحرمين الذي صرح به في الشامل أنه يستحيل اجتماع العلم بالجملة والعلم بالتفصيل فإن من أحاط بالتفصيل استحال في حقه تقدير العلم بالجملة

قال في الشامل فإن قيل فيلزمكم من ذلك أحد أمرين إما أن تصفوا الرب سبحانه وتعالى بكونه عالما بالجملة على الوجه الذي يعلمه وإما أن تقولوا لا يتصف الرب بكونه عالما بالجملة فإن وصفتموه بكونه عالما بالجملة لزم عن طرد ذلك وصفه بالجهل بالتفصيل تعالى وتقدس وإن لم تصفوه بكونه عالما بالجملة فقد أثبتم للعبد معلوما وحكمتم بأنه لا يثبت معلوما للرب تعالى سبحانه وهذا مستنكر في الدين مستعظم في إجماع المسلمين إذ الأمة مجمعة على أن الرب عالم بكل معلوم لنا

فالجواب عن ذلك أن نقول لا سبيل إلى وصف الرب تعالى بكونه عالما بالمعلومات على الجملة فإن ذلك متضمن جهلا بالتفصيل والرب تعالى يتقدس عنه عالم بتفاصيل المعلومات وهي مميزة منفصلة البعض عن البعض في قضية علمه والعلم بالتفصيل يناقض العلم على الجملة فلم يبق إلا ما استبعده الشامل من تصور معلوم في حق المخلوق ولا يتصور مثله في قضية علم الله تعالى وهذا ما لا استنكار فيه وليس بيد الخصم إلا التشنيع المجرد

انتهى

وفيه تصريح بأن الرب يعلم ما لا يتناهى مفصلا ثم صرح بأن العلم بالجملة يخالف العلم بالتفصيل وأنهما غير متضادين

قال ولكن لما افتقر العلم بالجملة إلى ثبوت جهل بالتفصيل أو شك أو غيرهما من أضداد العلوم فيؤول إلى المضادة

ثم نقل آخرا عن الشيخ رضي الله عنه أن الرب تعالى عالم بالجملة والتفصيل

ثم قال وهذا مما أستخير الله فيه وصرح في هذا الفصل في غير موضع بأن الرب تعالى يعلم ما لا يتناهى مفصلا

واستدل أيضا المازري على فساد ما ذهب إليه الإمام من أن العلم التفصيلي لا يتعلق بما لا يتناهى بأن ما استرسل إليه علم الله تعالى إما أن يخرج منه إلى الوجود أو لا فإن لم يخرج منه شيء منعنا نعيم أهل الجنة الثابت بالشرع وإن خرج منه فردان أو ثلاثة فإن لم يعلمها الرب سبحانه على سبيل التفصيل يلزم أن يكون جاهلا بكل شيء وإن علمها على التفصيل بعلم حادث فهذا مذهب الجهمية القائلين بأن الله سبحانه وتعالى يعلم المعلومات بعلوم محدثة وهو باطل فلم يبق إلا أن يعلمها بعلمه القديم الواحد على التفصيل ويفرض ذلك في كل ما خرج منها إلى الوجود حتى يؤدي إلى إثبات علمه بالتفصيل فيما لا يتناهى كما قال المسلمون

انتهى

وللإمام أن يقول يعلمها بالعلم القديم الواحد إلا أن العلم القديم يشملها معدومة على سبيل الإجمال لعدم تفصيلها حالة العدم في نفسها ويشملها موجودة على سبيل التفصيل وإن لم تتناه فلا جهل ولا جهمية ولا علم تفصيل بما لا تفصيل له

هذا أقصى ما عندي في تقرير كلام الإمام ثم أنا لا أوافقه على أن ما لا يتناهى لا تفصيل ولا تمييز له بل هو مفصل مميز

وقد صرح الإمام بذلك في الشامل ودعواه أن مما يحيل دخول ما لا يتناهى في الوجود وقوع تقديرات غير متناهية في العلم دعوى لا دليل عيها فمن أين يلزم من كون الموجود متناهي العدد أن يكون المعلوم متناهيا وقوله إن دخول ما لا يتناهى في الوجود مستحيل كلام ممجمج فإنه دخل وخرج عن كونه غير متناه

ولئن عنى بغير المتناهي الذي لا آخر له فنعيم أهل الجنة يدخل في الوجود وهو لا يتناهى

وإن عنى ما لا يحيط العلم بجملته فإن أراد علم البشر فصحيح لأن علمهم يقصر عن إدراك ما لا يتناهى مفصلا وإن عنى علم الباري فممنوع بل هو محيط بما لا يتناهى مفصلا

وسمعت بعض الفضلاء يقول إن الإمام لم يتكلم في هذا الفصل إلا في العلم الحادث دون العلم القديم

وفي هذا نظر

فهذا منتهى كلام على كلامه ولا أقول إنه مراده وإنما أقول هذا ما يدل عليه كلامه هنا وليس هو من العظيمة في الدين في شيء ولا خارجا عن قول المسلمين حتى يجعلهم في جانب والإمام في جانب وإنما العظيمة في الدين والسوء في الفهم أن يظن العاقل انسلال إمام الحرمين من ربقة المسلمين ولا يحل لأحد أن ينسب إليه أنه قال إن الله لا يحيط علما بالجزئيات من هذا الكلام

وأما اعتذار المازري بأنه خاض في علوم من الفلسفة إلى آخره فهذا العذر أشد من الذنب

ثم قال المازري في آخر كلامه لعل أبا المعالي لا يخالف في شيء من هذه الحقائق وإنما يريد الإشارة إلى معنى آخر وإن كان مما لا يحتمله قوله إلا على استكراه وتعنيف

ونحن نقول إنما أشار إلى معنى آخر وقد أريناكه واضحا

وقال الشريف أبو يحيى بعد ما نال من الإمام وأفرط تبعا للمازري يمكن الاعتذار عن الإمام في قوله يستحيل تعلق علم الباري تعالى بما لا يتناهى آحادا على التفصيل بل يسترسل عليها استرسالا بتمهيد أمر وهو أن الحد الحقيقي في المثلين أن يقال هما الموجودان اللذان تعددا في الحس واتحدا واتحدا في العقل وحد الخلافين أنهما الموجودان المتعددان في الحس والعقل ألا ترى أن البياضين والسوادين وغيرهما من المثلين متعددان في الحس بالمحل وفي العقل متحدان والسواد والبياض وغير ذلك من المختلفات متعددان حسا وعقلا

وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال إنما أراد بقوله يسترسل عليها استرسالا للأمثال المتفقة في الحقيقة فإن العلم يتعلق بها باعتبار حقيقتها تعلقا واحدا فإن حقيقتها واحدة كالبياض مثلا فإن آحاده لا تختلف حقيقة فعبر عن هذا بتعلق العلم بالأمثال جملة يريد العلم بالحادث وإن كان العلم القديم يفصل ما يقع منها مما علم أنه يقع في زمان دون زمان ومحل دون محل

انتهى

وأقول هذا راجح إلى ما قلناه بل هو زائد عن كلام الإمام لأنه يدعي أن المماثلات لا تعرف إلا بحقيقتها ولا شك أنها ممتازة بخواصها

ثم قال أبو يحيى والذي يعضد هذا التأويل ما ذكره في الكلام مع اليهود في النسخ حيث قال فإن الرب تعالى كان عالما في الأزل بتفاصيل ما لم يقع فيكف يذكر في أول الكتاب أمرا وينقضه في آخره هذا بعيد ممن له أدنى فطنة في العلوم فكيف بهذا الرجل المتبحر في العلوم فيكون هذا تعضيد ما ذكرناه من التأويل له وإن كان الكلام الأول قلقا جدا وظاهره شنيع أو يكون ما ذكره آخرا من التصريح الأول قلقا جدا وظاهره شنيع أو يكون ما ذكره آخرا من التصريح بعدم تعلق العلم بما لا يتناهى تفصيلا مما تقول عليه ودس عليه في كتابه وقد يعقل ذلك والله أعلم بما وقع من ذلك

انتهى

قلت وإني أستبعد أن يكون كما ذكر من أنه افترى عليه ودس في كتابه

ويشهد لذلك تصريحه في الشامل بأنه تعالى يعلم ما لا يتناهى على سبيل التفصيل وأنه متميز بعضه عن بعض

وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة ولولا يستعيب السفهاء على هذا الإمام بها لما تكلمنا عليها

ذكر بقايا من ترجمة إمام الحرمين رضي الله تعالى عنه

أخبرنا الحافظ أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف بن يحيى السبكي بقراءتي عليه أخبرنا علي بن عمر الواني سماعا أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الموبيني سماعا عليه أخبرنا الشريف قوام الدين عربشاه بن أحمد بن عبد الرحمن العلوي قاضي نهاوند سماعا

ح وقرأت على أبي الفرج عبد الرحمن ابن شيخنا الحافظ أبي الحجاج يوسف ابن عبد الرحمن المزي أخبرتك حرية بنت عامر بن إسماعيل بقراءة ولد لك عليها وأنت حاضر في الثالثة قال أخبرنا عربشاه إجازة أخبرنا الحواري قراءة عليه وأنا أسمع بنيسابور سنة خمس وثلاثين وخمسمائة في شهر رمضان أخبرنا الإمام فخر الإسلام ركن الدين إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك ابن عبد الله بن يوسف الجويني الخطيب رحمه الله أخبرنا والدي الإمام أبو محمد عبد الله بن يوسف أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأزهري أخبرنا أبو عوانه يعقوب بن إسحاق الحافظ حدثنا عمر بن شبة النميري حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي قال سمعت يحيى بن سعيد يقول أخبرني محمد ابن إبراهيم قال سمعت علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه

ومن شعر إمام الحرمين رحمه الله تعالى وقد قدمنا من كلام الباخرزي ما يدل على أنه كان لا يسمح بإخراجه ولكن أنشدوا له

أصخ لن تنال العلم إلا بستة ** سأنبئك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص وافتقار وغربة ** وتلقين أستاذ وطول زمان

ووجدت بخطة رضي الله عنه في خطبته للغياثي وهو عندي بخطه مما خاطب به نظام الملك ومن خطه نقلت

فلا زال ركب المعتفين منيخة ** لذروتك العليا ولا زلت مقصدا

تدين لك الشم الأنوف تخضعا ** ولو أن زهر الأفق أبدت تمردا

لجاءتك أقطار السماء تجرها ** إليك لتعفو أو لتوردها الردى

وما أنا إلا دوحة قد غرستها ** وسقيتها حتى تمادى بها المدى

فلما اقشعر العود منها وصوحت ** أتتك بأغصان لها تطلب الندى

ثم رأيته قد ضرب على البيتين الأخيرين وسررت بذلك فإني سمعت الشيخ الإمام رحمه الله يحكي عن شيخنا أبي حيان أنه كان يتعاظمهما ويقول كيف يرضى الإمام أن يخاطب النظام بهذا الخطاب ثم يذم الدنيا التي تحوج مثل الإمام إلى مثل ذلك

مناظرتان اتفقتا بمدينة نيسابور بين إمام الحرمين والشيخ أبي إسحاق الشيرازي عند دخول الشيخ رسول إلى نيسابور نقلتهما من خط الشيخ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح في مجموع له

سئل الشيخ الإمام أبو المعالي الجويني عمن اجتهد في القبلة وصلى ثم تيقن الخطأ فاستدل فيها بأنه تعين له يقين الخطأ في شرط من شروط الصلاة فلزمه الإعادة كما لو تيقن الخطأ في الوقت

اعترض عليه الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي بأن قال لا يجوز اعتبار القبلة بالوقت فإن أمر القبلة أخف من أمر الوقت والدليل عيه شيآن أحدهما أن القبلة يجوز تركها في النافلة في السفر والوقت لا يجوز تركه في النوافل المؤقتة كصلاة العيد وسنة الفجر في السفر وإن استويا في كونهما شرطين

والثاني أن القبلة يجوز تركها في الفرض في شدة الحرب والوقت لا يجوز تركه في شدة الحرب في الفرض

فقال الشيخ أبو المعالي لا خلاف بين أهل النظر أنه ليس من شرط القياس أن يشابه الفرع الأصل من جميع الوجوه وإنما شرطه أن يساويه في علة الحكم فإذا استويا في علة الحكم لم يضر افتراقهما فيما سواها فإنه لو اعتبر تساويهما في كل شيء لم يصح القياس لأنه ما من شيء يشبه شيئا في أمر إلا ويخالفه في أمر ثم كون أحدهما أخف والآخر آكد لا يمنع الاعتبار ألا ترى أنا نقيس الفرض على النفل والنفل على الفرض وإن كان أحدهما أخف والآخر آكد ونقيس العبادات بعضها على بعض مع افتراقها في القوة والضعف ونقيس الحقوق بعضها على بعض وإن كان بعضها أخف وبعضها آكد فكذلك هنا يجوز أن أعتبر القبلة بالوقت وإن كان أحدهما آكد والآخر أخف

وجواب آخر أنه كما يجوز ترك القبلة مع العلم في النافلة في السفر والحرب فالوقت أيضا يجوز تركه في الجمع بين الصلاتين في السفر ولا فارق بينه وبين القبلة بل القبلة آكد من الوقت ألا ترى أنه لو دخل في صلاة الفرض قبل دخول الوقت مع العلم انقلبت صلاته نفلا ولو دخل في الفرض إلى غير القبلة لم تنعقد نفلا فدل على أن القبلة آكد من الوقت

فقال له الشيخ أبو إسحاق أما قولك إنه ليس من شرط القياس أن يساوي الفرع الأصل من كل وجه بل يكفي أن يساويه في علة الحكم ولا يضر افتراقهما فيما سواه يعارضه أن من شرط القياس أن يرد الفرع إلى نظيره وهذا الأصل ليس بنظير للفرع بدليل ما ذكرت فلم يصح القياس ولأن افتراقهما فيما ذكرت من جواز ترك القبلة في النافلة في السفر وشدة الحرب وأن ذلك لا يجوز في الوقت دليل على أنهما لا يستويان في العلة لأنهما لو استويا في العلة لاستويا في النظير وإذا لم يستويا في العلة لم يصح القياس

وقولك لم إذا كان أحدهما أخف والآخر آكد لم يجز قياس أحدهما على الآخر لأنه إذا كان أحدهما آكد والآخر أخف دل على أن أحدهما ليس بنظير للآخر ولا يجوز قياس الشيء على غير نظيره

وقولك إنا نقيس النفل على الفرض وأحدهما آكد ونقيس العبادات بعضها على بعض والحقوق بعضها على بعض مع اختلافها غير صحيح لأنه إذا اتفق فيها مثل ما اتفق هاهنا فأنا أمنع من القياس وإنما نجيز القياس في الجملة فإذا بلغ الأمر إلى التفصيل وقيس الشيء على غير نظيره لم أجوز ذلك وهذا كما نقول إن القياس في الجملة جائز ثم إذا اتفق منه ما خالف النص لم يجز ولا نقول إن القياس في الجملة جائز فوجب أن يجوز ما اتفق منه مخالفا للنص

وقولك إنه يكفي أن يستويا في علة الحكم ولا يضر افتراقهما بعد ذلك لا يصح لأنه لا يكفي أن يستويا في علة الحكم غير أني لا أسلم أنهما استويا في علة الحكم لأن افتراقهما فيما ذكرت يدل على أنهما لم يستويا في علة الحكم

وقولك إنه ليس من شرط القياس أن يستوي الأصل والفرع في جميع الأحكام لأنه لو شرط ذلك انسد باب القياس يعارضه أنه ليس من شرط الفرق أن يفارق الفرع الأصل في جميع الأشياء لأنه لو شرط ذلك انسد باب الفرق والفرق مانع كما أن القياس جامع

وأما قولك إنه كما يجوز ترك القبلة في النافلة في السفر وشدة الحرب فكذلك يجوز ترك الوقت في الجمع بين الصلاتين لا يصح لأن ترك الوقت في الجمع ليس على سبيل التخفيف لموضع العذر وإنما هو من سنن النسك فلا يدل ذلك على التخفيف كما لا يدل الاقتصار في الصبح على الركعتين على أنها أضعف من الظهر والعصر

وليس كذلك ما ذكرناه من ترك القبلة في النافلة في السفر والفريضة في الحرب لأن ذلك أجيز لتخفيف أمر القبلة في العذر فهو كالقصر في الظهر والعصر في السفر

وأما قولك إنه إذا دخل في الفرض قبل الوقت انعقد نفلا ولو دخل فيه وهو غير مستقبل القبلة لم تنعقد له الصلاة نفلا فإن ما قبل الوقت وقت للنفل وغير القبلة ليس بموضع للنفل من غير عذر

فقال الشيخ أبو المعالي أما قولك إني لا أسلم أن هذا علة الأصل فهذا من أهم الأسولة وأجودها ولكن كان من سبيلك أن تطالبني به وتصرح به ولا تكننى عنه فلا أقبله بعد ذلك

وأما قولك إنه إن كان ما ذكرت يسد باب القياس لأنه ما من فرع يشابه أصلا في شيء إلا ويفارقه في أشياء فما ذكرت أيضا يمنع الفرق لأنه ما من فرع يفارق أصلا في شيء إلا ويساويه في أشياء فصحيح إلا أنك إذا أردت الفرق فيجب أن تبين الفرق وتدل عليه وترده إلى أصل ولم تفعل ذلك وإن تركت ما ذكرت واستأنف فرقا تكلمت عليه

وأما قولك إن هذا نظير لأنه ترك القبلة في النافلة في السفر وفي الفرض في الحرب فغير صحيح لأن فيما ذكرت تترك القبلة من جهة العجز فجاز أن يسقط الفرض معه وهاهنا ترك للاشتباه وليس الترك للعجز كالترك للاشتباه ألا ترى أن المستحاضة ومن به سلس البول يصليان مع قيام الحدث ولو ظن أنه متطهر وصلى لم يسقط الفرض

وأما قولك إن ترك الوقت في الجمع لحق النسك على وجه العبادة فلا يصح لأنه لو كان لهذا المعنى لوجب إذا أخر العصر إلى وقتها ألا يصح لأنه فعل العبادة على غير وجهها فدل على أنه على وجه التخفيف لحق العذر

وجواب آخر من حيث الفقه أنا فرقنا بين الوقت والقبلة لأن الحاجة تدعو إلى ترك القبلة في الناقلة لعذر السفر لأنا لو قلنا إنه لا يجوز ترك القبلة أدى إلى تحمل المشقة إن صلاها أو تركها ولا مشقة في ترك الوقت لأن السنن الراتبة مع الفرائض تابعة للفرائض فيصليها في أوقاتها وكذلك في شدة الحرب الحاجة داعية إلى ترك القبلة فإنا لو ألزمناهم استقبال القبلة أدى إلى هزيمتهم أو قتلهم ولا حاجة بهم إلى ترك الوقت فإنه يصليها في وقتها وهو يقاتل

فقلت له أما قولك إنه كان يجب أن تطالبني بتصحيح العلة وتصرح ولا تكني فلا يصح لأني بالخيار بين أن أطالبك بتصحيح العلة وبين أن أذكر ما يدل على فسادها كما أن القائس بالخيار بين أن يذكر علة المسألة وبين أن يذكر ما يدل على العلة والجميع جائز فكذلك هاهنا

وأما قولك إن الجمع لو كان للعبادة لما جاز التأخير لا يصح لأنه لو يجوز التأخير لأنه يفعلها في وقتها وتقديمها أفضل لأنه وقت لها على سبيل القربة والفضيلة

وأما قولك إن ترك القبلة في النافلة والحرب للعجز أو المشقة فلا يصح لأنه كان يجب لهذا العجز أن يترك الوقت فتؤخر الصلاة في شدة الخوف ليؤديها على حال الكمال ويتوفر على القتال ولما لم يجز ترك الوقت وجاز ترك القبلة دل على أن فرض القبلة أخف من فرض الوقت فجاز أن يكون الاشتباه عذرا في سقوط فرض القبلة ولا يكون عذرا في ترك الوقت وهذا آخرها

قال ابن الصلاح نقلتها من خط الشيخ أبي علي بن عمار وقال نقلتها من خط رجل من أصحاب الشيخ أبي إسحاق وذكر في آخر الخط أنه كتبها من خط الشيخ الإمام أبي إسحاق

وقوله فيها فقلت له هذا حكاية قول الشيخ أبي إسحاق وهو دليل أنها نقلت من خطه

قلت وقول الشيخ أبي إسحاق في جوابه ترك الوقت في الجمع ليس للتخفيف بل هو من سنن النسك يقتضي أنه فهم عن إمام الحرمين أنه إنما استدل بالجمع الذي هو من سنن النسك لا مطلق الجمع بين الصلاتين في السفر إذ ذاك على سبيل التخفيف بلا إشكال وهو فهم صحيح عن الإمام فإنه لم يرد سواه كما يشهد به كلامه في أجوبته ولم يتضح لي وجه التخصيص بجمع النسك ولم لا وقع الاستدلال بمطلق الجممع لعذر السفر وينبغي أن يتأمل هذا فإن الشيخين ما عدلا عن ذلك إلا لمعنى ولم نفهمه نحن

المناظرة الثانية

استدل الشيخ الإمام أبو إسحاق رحمه الله بنيسابور في إجبار البكر البالغة بأن قال باقية على بكارة الأصل فجاز للأب تزويجها بغير إذنها

أصله إذا كانت صغيرة

فقال السائل جعلت صورة المسألة علة في الأصل وذلك لا يجوز

فقال هذا لا يصح لثلاثة أوجه أحدهما أني ما جعلت صورة المسألة علة في الأصل لأن صورة المسألة تزويج البكر البالغة من غير إذن وعلتي أنها باقية على بكارة الأصل وليس هذا صورة المسألة لأن هذه العلة غير مقصورة على البكر البالغة بل هي عامة في كل بكر ولهذا قست على الصغيرة

الثاني قولك لا يجوز أن تجعل صورة المسألة علة دعوى لا دليل عليها وما المانع من ذلك الثالث أن العلل شرعية كما أن الأحكام شرعية ولا ينكر في الشرع أن يعلق الشارع الحكم على الصورة مرة كما يعلق على سائر الصفات فلا معنى للمنع من ذلك فإن كان عندك أنه لا دليل على صحتها فطالبني بالدليل على صحتها من جهة الشرع

فقال السائل دل على صحتها من الشرع

فقال الدليل على صحة هذه العلة الخبر والنظر

أما الخبر فما روي أنه ‏(‏ الأيم أحق بنفسها من وليها ‏)‏ والمراد به الثيب لأنه قابلها بالبكر فقال ‏(‏ والبكر تستأمر ‏)‏ فدل على أن غير الثيب وهي البكر ليس أحق بنفسها

وأقوى طريق تثبت به العلة نطق صاحب الشرع

وأما النظر لا خلاف أن البكر يجوز أن يزوجها من غير نطق لبكارتها ولو كانت ثيبا لم يجز تزويجها من غير نطق أو ما يقوم مقام النطق عنده وهو الكتابة ولو لم يكن تزويجها إلى الولي لما جاز تزويجها من غير نطق

اعترض عليه الشيخ الإمام أبو المعالي ابن الجويني فقال المعول في الدليل على ما ذكرت من الخبر والنظر فأما الخبر فإنه يحتمل التأويل فإنه يجوز أن يكون المراد به أن الثيب أحق بنفسها لأنه لا يملك تزويجها إلا بالنطق البكر بخلافها وإذا احتمل التأويل أولنا على ما ذكرت بطريق يوجب العلم وهو أنه قد اجتمع للبكر البالغة الأسباب التي تسقط معها ولاية الولي وتستقل بنفسها في التصرف في حق نفسها لأن المرأة إنما تفتقر إلى الولي لعدم استقلالها بنفسها لصغر أو جنون فإذا اجتمع فيها الأسباب التي تستغني بها عن ولاية الولي لم يجز ثبوت الولاية عليها في التزويج بغير إذنها ولأن في الخبر ما يدل على صحة هذا التأويل من وجهين أحدهما أنه ذكر الولي وأطلق ولم يفصل بين الأب والجد وغيرهما من الأولياء ولو كان المراد ولاية الإجبار لم يطلق الولاية لأن غير الأب والجد لا يملك الإجبار بالإجماع فثبت أنه أراد به اعتبار النطق في حق الثيب وسقوطه في حق البكر ولأنه قال والبكر تستأمر وإذنها صماتها فدل أنه فدل أنه أراد في الثيب اعتبار النطق

أجاب الشيخ الإمام أبو إسحاق فقال لا يجوز حمله على ما ذكرت من اعتبار النطق لأنه ‏(‏ الثيب أحق بنفسها ‏)‏ وهذا يقتضي أنها أحق بنفسها في العقد والتصرف دون النطق

وقوله إنه أطلق الولي فإنه عموم فأحمله على الأب والجد بدليل التعليل الذي ذكره في الثيب فإنه قال ‏(‏ والثيب أحق بنفسها من وليها ‏)‏ وذكر الصفة في الحكم تعليل والتعليل بمنزلة النص فيخص به العموم كما يخص بالقياس

وقولك إنه ذكر الصمات في حق البكر فدل على إرادته النطق في حق الثيب لا يصح بل هو الحجة عليك لأنه لما ذكر البكر ذكر صفة إذنها وأنه الصمات فلو كان المراد به في الثيب النطق لما احتاج إلى إعادة الصمات في قوله ‏(‏ والبكر تستأمر ‏)‏

وأما قوله إن هاهنا دليلا يوجب القطع غير صحيح وإنما هو قياس على سائر الولايات والقياس يترك بالنص

فقال الشيخ أبو المعالي لا يخلو إما أن تدعي أنه نص ودعواه لا تصح لأن النص ما لا يحتمل التأويل فإذا بطل أنه نص جاز التأويل بالدليل الذي ذكرت

وأما قولك إني أحمل الولي على الأب والجد بدليل التعليل الذي ذكره في الخبر فليس بصحيح لأن ذكر الصفة في الحكم إنما يكون تعليلا إذا كان مناسبا للحكم الذي علق عليه كالسرقة في إيجاب القطع والثيوبة غير مناسبة للحكم ا لذي علق عليها وهي أنها أحق بنفسها فلا يجوز أن تكون علة ولأن ما ذكرت ليس بقياس وإنما هو طريق آخر فجاز أن يترك له التعليل

أجاب الشيخ الإمام أبو إسحاق فقال أما التأويل فلا تصح دعواه لأن التأويل صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله كقول الرجل رأيت حمارا وأراد به الرجل البليد فإن هذا مستعمل فجاز صرف الكلام إليه فأما ما لا يستعمل اللفظ فيه فلا يصح تأويل اللفظ عيه كما لو قال رأيت بغلا ثم قال أردت به رجلا بليدا لم يقبل لأن البغل لا يستعمل في الرجل بحال فكذلك هاهنا قوله ‏(‏ الأيم أحق بنفسها من وليها ‏)‏

وقولك ليس بتعليل لأنه لا يناسب الحكم لا يصح لأن ذكر الصفة في الحكم تعليل في كلام العرب ألا ترى أنه إذا قال اقطعوا السارق كان معناه لسرقته وإذا قال جالس العلماء كان معناه لعلمهم

وقولك إنه إنما يجوز فيما يصلح أن يكون تعليلا للحكم الذي علق عليه كالسرقة في إيجاب القطع لا يصح لأن التعليل للحكم الذي علق عليه طريقه الشرع ولا ينكر في الشرع أن تجعل الثيوبة علة لإسقاط الولاية كما لا ينكر أن تجعل السرقة علة لإيجاب القطع والزنا للجلد

وقولك هذا الذي ذكرت ليس بقياس خطأ بل جعلت استقلالها بهذه الصفات مغنيا عن الولاية ولا تصح هذه الدعوى إلا بالإسناد إلى الولايات الثابتة في الشرع والولايات الثابتة في الشرع إنما زالت بهذه الصفات في الأصل فحملت ولاية النكاح عليها وذلك يحصل بالقياس ولو لم يكن هذا الأصل لما صح لك دعوى الاستقلال بهذه الصفات فإنه لا يسلم أن الولاية تثبت في حق المجنون والصغير بمقتضى العقل وإنما يثبت ذلك بالشرع والشرع ما ورد إلا في الأموال فكان حمل النكاح عليه قياسا والقياس لا يعارض النص وقد ثبت أن الخبر نص لا يحتمل التأويل فلا يجوز تركه بالقياس ولأن هذا طريق يعارضه مثله وذلك أنه إذا كانت الأصول موضوعة على ثبوت الولاية للحاجة وسقوطها بالاستقلال بهذه الصفات فالأصول موضوعة على أن النطق لا يعتبر إلا في موضع لا يثبت فيه الولاية وقد ثبت أن النطق سقط في حق البكر فوجب أن تثبت الولاية عليها

فقال الشيخ الإمام أبو المعالي النطق سقط نصا

فقال الشيخ الإمام أبو إسحاق هذا تأكيد لأن سقوطه بالنص دليل على ما ذكرت

وهذا آخر ما جرى بينهما

والله أعلم

ومن الفوائد والمسائل والغرائب عن إمام الحرمين رحمه الله

قال في النهاية في باب دية الجنين فيما إذا ألقت المرأة لحما وذكر القوابل أنهن لا يدرين هل هو أصل للولد أو لا لا يتعلق به أمية الولد ولا وجوب الغرة ولا الكفارة

وهل يتعلق به انقضاء العدة ذكر العراقيون فيه وجهين أحدهما أنه لا يتعلق به انقضاؤها وهو الأصح لأنا نفرع على اتباع قول القوابل ولو قلن إنه ليس لحم ولد فلا يتعلق به انقضاء العدة فإذا قلن لا ندري فالأصل بقاء العدة فخرج مما ذكرناه في هذا الفصل أن القوابل لو قلن في العلقة إنها أصل الولد ففي انقضاء العدة بوضعها خلاف ولو شككن في اللحم ففي تعلق انقضاء العدة به وجهان للعراقيين

والخلاف في المسألتين جميعا بعيد

انتهى

فقد صرح في حالة شكهن بحكاية وجهين وكرر ذكر ذلك وبه يستدرك على الرافعي ثم النووي دعواهما أنه لا خلاف في صورة الشك وأنه لا يحصل انقضاء العدة به

ذكر الإمام في كتابه المسمى بالمدارك أن الطلاق في الحيض ليس حراما

قال وإنما الحرام تطويل العدة

وهذا يؤيد أحد وجهين حكاهما النووي عن حكاية شيخه الكمال سلار فيما إذا راجع بعد طلاقه في الحيض هل يرتفع الإثم والمشهور أن طلاق الحائض حرام

لو غصب العبد المرتد غاصب فقتله فلا شيء عليه وإن مات في يده

قال الإمام في النهاية في أثناء السير في باب إظهار دين الله إنه يجب الضمان

قال الإمام في باب زكاة الفطر من النهاية وقد ذكر القدرة على بعض الصاع كل أصل ذي بدل فالقدرة على بعض الأصل لا حكم لهما وسبيل القادر على البعض كسبيل العاجز عن الكل

ثم ذكر ما يستثنى من هذا الضابط إلى أن قال وكذلك إذا انتقضت الطهارة بانتقاض بعض المحل فالوجه القطع بالإتيان بالمقدور عليه وقد ذكر بعض الأصحاب فيه اختلافا بعيدا

انتهى

ومنه أخذ شارح التعجيز مصنف ابن يونس إثبات خلاف في المسألة وقد تكلمنا عليه في جواب أسئلة سألني عنها الشيخ شهاب الدين الأذرعي فقيه أهل حلب نفع الله به

قال الإمام رحمه الله قبيل باب الرجعة من النهاية فرغ الزوج إذا ادعى اختلاع امرأته بألف درهم فأنكرته فأقام شاهدا وحلف معه أو شاهدا وامرأتين ثبت المال فإن المال يثبت بما ذكرناه أما الفرقة فقد ثبت بقوله ولو ادعت المرأة الخلع فأنكر الزوج فلا بد من شاهدين فإن غرضها إثبات الفرقة

قال الشيخ أبو علي لو ادعى على المرأة الوطء في النكاح وغرضه إثبات العدة والرجعة فلا يقبل منه إلا شاهدان إن أراد إقامة البينة

ولو ادعت المرأة مهرا في النكاح وأنكر الزوج أصل النكاح فأقامت شاهدا وحلفت يمينا على النكاح وغرضها إثبات المهر

قال الشيخ لم يثبت شيء بخلاف ما قدمناه وذلك أن النكاح ليس المقصود منه إثبات المال وإنما المال تابع والنكاح لا يثبت إلا بشهادة عدلين

وكان شيخي يقول يثبت المهر إذا قصدته وما ذكره الشيخ أبو علي أفقه فإنها وإن أبدت مقصود المال فمقودها في النكاح غير المال والشاهد لهذا أن الشافعي رضي الله تعالى عنه لم يقض بانعقاد النكاح بحضور رجل وامرأتين وهذا يشعر بأن النكاح من الجانبين لا يثبت إلا بعدلين فلا يثبت شيء من مقاصده

وفي المسألة احتمال على حال وسأجمع بتوفيق الله في الدعاوي والبينات قواعد المذهب فيما يثبت بالشاهد والمرأتين وما لا يثبت إلا بعدلين وإلى الله الابتهال في تصديق الرجاء وتحقيق الأمل وصرف ما سعيت فيه إلى نفع المسلمين

انتهى

ذكره آخر الطلاق وقبيل الرجعة والمقصود منه أنه حكى وجهين في ثبوت الصداق بشاهد ويمين وأن الأفقه عنده عدم ثبوت وهو خلاف ما جزم به الرافعي ومن تبعه في كتاب الشهادات فإنهم جزموا بأنه يثبت بشاهد ويمين ولعدم الثبوت اتجاه ظاهر فإن المذهب في رجل وامرأتين شهدوا بهاشمة قبلها إيضاح عدم وجوب أرش الهاشمية لأن الموضحة التي قبلها أوجبها القصاص وهو مما لا يثبت برجل وامرأتين فرددنا شهادتهم في أرش الهاشمية مع صلاحية البينة لها لأنها موجبة مال وإنما رددناها لكونها بعض فعل لا يثبت برجل وامرأتين وهذا دليل على أنا نردها في الصداق المسمى الذي ثبوته فرع ثبوت النكاح وإذا لم يثبت الملزوم بهذه الشهادة فكيف يثبت اللازم فليحمل جزمهم بأن الصداق يثبت بشاهد ويمين على ما إذا وقعت الدعوى به مجردة مع التصادق على أصل النكاح أما إذا وقعت بأصل النكاح فلا يثبت الصداق إلا على ما نقله الإمام عن شيخه والذي يظهر وذكر الإمام أنه الأفقه كما رأيت خلافه وبذلك صرح الماوردي أيضا فقال إذا اختلف الزوجان في الصداق مع اتفاقهما على النكاح سمع فيه شهادة رجل وامرأتين ولو اختلفا في النكاح لم يسمع فيه إلا شهادة رجلين لأن الصداق مال والنكاح عقد ويصح انفرادها به ولو ادعت الزوجة الخلع وأنكر لم تسمع فيه إلا شهادة شاهدين ولو ادعاه الزوج وأنكرته الزوجة سمع فيه شهادة رجل وامرأتين والفرق بينهما أن بينة الزوجة لإثبات الطلاق وبينة الزوج لإثبات المال

انتهى لفظ الحاوي فيظهر أن ثبوت الصداق إنما هو فيما إذا ادعته المرأة مجردا من دعوى النكاح

فإن قلت كيف يحمل جزمهم على ما إذا وقعت الدعوى به بمجرده وقد قال الرافعي لو شهد رجل وامرأتان على صداق في النكاح يثبت الصداق لأنه المقصود قلت يحمل على الدعوى بهما أو بالنكاح لا على الصداق بمجرده لقوله في نكاح

ولكن يصدني عن هذا الحمل أن ابن الرفعة صرح بأن المراد بهذه المسألة ما إذا ادعت النكاح لإثبات المهر ونبه على ما ذكرناه من كلام الإمام وأشار به إلى اختلاف كلامه فإن الذي جزم به في الشهادات أنه يثبت وعليه دلت عبارة الغزالي فإنه قال في الوسيط ثم ليعلم أن النكاح إن لم يثبت برجل وامرأتين ثبت في حق المهر